الأنـوار في سيرة النبي المختــار . ( جزء3 ) .
سؤال وجــواب .
تصحيح لغوي ، وتنسيق مقال أ/ إبراهيم باشا .
بقلم / سليمان بن محمد اللهيميد .
السعودية – رفحاء .
47 – ما الحكمة في أن الرسول _ صلى الله عليه وسلم _ بدأ دعوته سرًّا ؟
– الدعوة السرية فرصة للتربية ، والتكوين ، ومرحلة لإعداد المؤمنين حتى يشتد عُوُدُهم ، وتقوى على
تَحَمُّل البلاء نفوسُهُم .
– لأن الرسول _ صلى الله عليه وسلم _ جاءهم بدين لم يعرفوه ، وبأمر لم يألفوه ، فلو أنه واجههم به لأول وهلة لحالوا بينه وبين الاتصال بالناس ،
ولم يمكنوه من تبليغ دعوته ، وحينئذ لم يتوفر لديه فرصة الالتقاء بمن آمنوا به ؛ لِيُعَلِّمَهم وَيُفقههم في الدين ، ويربيهم التربية التي تؤهِّلهم للنهوض بالعبء الضخم الذي ينتظرهم .
_ تعليم للدعاة وإرشاد لهم في كل زمان ومكان إلى مشروعية الأخذ بالحيطة والأسباب الظاهرة .
48 – مَن أكثر الناس استجابة لدعوة الرسول _ صلى الله عليه وسلم _ ؟
أكثر الذين استجابوا لدعوة الرسول _ صلى الله عليه وسلم _ مِن الضعفاء والموالي ، وهم أقرب الناس إجابة لدعوة الرسل ،
لأنهم لا يصعب عليهم أن يكونوا تبعًا لغيرهم ، أما الكبراء وأهل الجاه والسلطان فيمنعهم الكبر وحب الجاه والرفعة عن الانقياد غالبًا .
كما قال تعالى في قوم نوح عليه السلام : (( وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ )) .
49 – كيف بدأت الدعوة الجهرية ؟
بدأت بنزول قول الله تعالى : (( وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ )) .
عن علي _ رضي الله عنه _ قال : ” لما نزلت هذه الآية : { وأنذر عشيرتك الأقربين } قال : جمع النبي _ صلى الله عليه وسلم _ أهل بيته ، فاجتمع
ثلاثون ، فأكلوا وشربوا ، فقال لهم : مَن يضمن عين ديين ومواعيدي ويكون معي باجلنة .. ” رواه أحمد .
ثم دعاهم ثانية … فقال أبو طالب : فوالله لا أزال أحوطك وأمنعك غير أن نفسي لا تطاوعني على فراق دين عبد المطلب .
50 – ما الحكمة في البداية أولًا بالأقربين ؟
قال ابن حجر : ” والسر في الأمر بإنذار الأقربين أولًا أن الحجة إذا قامت عليهم تعدت إلى غيرهم وإلا فكانوا علة للأبعدين في الامتناع ، وأن لا يأخذه ما يأخذ القريب للقريب من العطف والرأفة فيحابيهم في الدعوة والتخويف ، فذلك نص له على إنذارهم ” .
51 – ماذا فعل الرسول _ صلى الله عليه وسلم _ بعد ذلك ؟
بعدما تأكد النبي _ صلى الله عليه وسلم _ من تعهد أبي طالب بحمايته ، قام على الصفا وصدع بالدعوة .
عن ابن عباس _ رضي الله عنه _ قال : ” لما نزلت : (( وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ )) ، خرج رسول الله _ صلى الله عليه وسلم _ حتى صعد الصفا فهتف يا صباحاه ، فقالوا : مَن هذا ؟ فاجتمعوا إليه ، فقال : أرايتكم إن أخربتكم أن خيلًا تخرج من سفح هذا الجبل أكنتم مصدِّقي ؟ قالوا : ما جربنا عليك كذبًا . قال : فإني نذير لكم بين يدي عذاب عظيم ،
قال أبو لهب :” تبًّا لك ما جمعتنا إلا لهذا ” ، ثم قام فنزلت : (( تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ )) ” ، متفق عليه .
قوله : ( أرأيتكم إن أخربتكم .. ) ، أراد بهذا تقريرهم بأنهم يعلمون صدقه إذا أخبر عن الأمر الغائب .
52 – هل عاقب الله عز وجل أبو لهب ؟
نعم ، فإن الله لم يترك أبو لهب بل سجله له في سورة تتلى إلى يوم القيامة ، فكانت لعنة عليه في الدنيا حتى يلقى جزاءه في الآخرة ، فقال تعالى : (( تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2) سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ (3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ )) .
(( تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ )) أي: هلكت يدا ذلك الشقي . (( وَتَبَّ )) أي: وخاب وخسر . (( وَامْرَأَتُهُ )) أي: أم جميل أروى بنت حرب ، وكانت عونًا لزوجها على كفره وجحوده ، ولهذا تكون يوم القيامة عونًا عليه في عذابه في
نار جهنم .
(( حَمَّالَةَ الْحَطَبِ )) أي: تضع الشوك في طريق رسول الله _ صلى الله عليه وسلم _ ، وقيل : كانت تمشي بالنميمة .
53 – اذكر بعض من أسلم خلال الدعوة الجهرية ؟
* ضماد من أزد شنوءة .
عن ابن عباس _ رضي الله عنه _ ( أن ضمادًا قدم مكة وكان يرقي من الريح ، فسمع سفهاء أهل مكة يقولون : إن محمدًا مجنون ، فقال : لو أني رأيت هذا الرجل لعل الله أن يشفيه على يديَّ ، قال : فلقيه ، فقال : يا محمد ! إني أرقي من هذه الريح وإن الله يشفي على يدي مَن شاء فهل لك ؟ فقال رسول الله _ صلى الله عليه وسلم _ : ( إن الحمد لله نحمده
ونستعينه مَن يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدًا عبده ورسوله ) ، فقال : لقد سمعت قول الكهنة وقول السحرة وقول الشعراء فما سمعت مثل كلماتك
هؤلاء ، فقال : هاتك أبايعك على الإسلام . قال : فبايعه . فقال رسول الله _ صلى الله عليه وسلم _ : وعلى قومك ، قال : وعلى
قومي ) . رواه مسلم .
54 – اذكر بعض أساليب المشركين في محاربة الدعوة ؟
1_ التهديد بمنازلـة الرسول وعمه أبي طالب .
ففي الحديث : ( جاءت قريش إلى أبي طالب فقالوا : أرأيت أحمد ؟يؤذينا في نادينا ، وفي مسجدنا فانْهَه عن أذانا ، فقال : يا عقيل ، ائتني بمحمد فذهبت فأتيته به ، فقال : يا ابن أخي إن بني عمك زعموا أنك تؤذيهم
في ناديهم وفي مسجدهم فانتهِ عن ذلك ، قال : فلحظ رسول الله _ صلى الله عليه وسلم _ ببصره ، ( وفي رواية : فحلق رسول الله
_ صلى الله عليه وسلم _ ببصره ) إلى السماء ، فقال : ما أنا بأقدر على أن أدع لكم ذلك ، على أن تشعلوا لي منها شعلة ، يعني
الشمس ، فقال أبو طالب : ما كذب ابن أخي ، فارجعوا ) .
2 _ الاتهامات الباطلـة لصد الناس عنه _ صلى الله عليه وسلم _ .
* اتهموه بالجنون :
قال تعالى : (( وَيَقُولُونَ إنَّهُ لَمَجْنُون )) .
قال تعالى : (( وَقَالُواْ يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ )) .
وقد أجابهم الله في آية القلم (( ما أنت بنعمة ربك مبجنون )) .
* اتهموه بالسحر :
قال تعالى : (( وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَّسْحُورًا )) .
وقال عنهم : (( وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ )) .
* اتهموه بالكذب :
قال تعالى : (( وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ )) .
قال تعالى : (( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ )) .
* اتهموه بالإتيان بالأساطير :
قال تعالى : (( وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَىٰ عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا )) .
وقالوا : إن القرآن ليس من عند الله وإنما من عند البشر ، كما قال تعالى : (( وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ ۗ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَٰذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ )) .
* السخرية والاستهزاء والضحك .
يقول تعالى عن سخريتهم من الذين آمنوا : (( وَكَذَٰلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لِّيَقُولُوا أَهَٰؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا ۗ أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ )) .
جاء في البخاري أن امرأة قالت للرسول _ صلى الله عليه وسلم _ ساخرة مستهزئة : إني لأرجو أن يكون شيطانك قد تركك ، لم أره قربك منذ ليلتين أو ثلاثًا ! فأنزل الله : (( وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى ))
.
(( مَا وَدَّعَكَ )) أي: ما تركك . (( وَمَا قَلَى )) أي: ما أبغضك .
وروى البخاري : ” أن أبا جهل قال مستهزئًا : اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم ، فنزلت : (( وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَٰذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (32) وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ ۚ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ )) .
وجاء في مسند الإمام أحمد : ” أن أشراف قريش اجتمعوا يومًا في الحجر يتذاكرون أمر رسول الله _ صلى الله عليه وسلم _ وما
جاء به ، وبينما هم في ذلك إذا طلع عليهم رسول الله _ صلى الله عليه وسلم _ ليطوف بالبيت ، فلما مر بهم غمزوه ببعض القول
ثلاث مرات ، فقال لهم : يا معشر قريش ، أما والذي نفسي بيده لقد جئتكم بالذبح … ” .
وكان إذا جلس وحوله المستضعفون من أصحابه استهزءوا بهم ، وقال هؤلاء جلساؤه } مَنّ الله عليهم مِن بيننا ، قال تعالى : (( أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ )) .
وكانوا كما قص الله علينا : (( إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُواْ فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاء لَضَالُّونَ * وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ )) .
* تشويه تعاليمـه وإثارة الشبهات ، وبث الدعايات الكاذبة :
قالوا عن القرآن : (( وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَىٰ عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا )) ،
وقالوا : (( إِنْ هَذَا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ )) ،
وكانوا يقولون أيضًا : (( إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ )) .
55 – هل الاستهزاء سنة ماضية في أنبياء الله ورسله ؟
نعم .
ولذلك قال الله لنبيه مسليًّا : (( وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ )) ،
فقد ذكر الله تعالى في هذه الآية أن الكفار استهزءوا برسل قبل نبينا _ صلى الله عليه وسلم _ وأنهم حاق بهــم العذاب بسبب ذلك .
56- اذكر بعض أنواع الاستهزاء الذي وقع لأنبياء الله قبل نبينا ؟
قول قوم هود له : (( إِن نَّقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ )) ،
وقال قوم صالح له : (( يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ )) ،
وقال قوم لوط فيما حكى الله عنهم : (( لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ )) ،
وقال عنهم : (( فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ )) ،
وقال قوم شعيب : (( قَالُواْ يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِّمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ )) .
57- ماذا فعلت قريش عندما لم تثمر الأساليب الماضية في صد الرسول _ صلى الله عليه وسلم _ وأصحابه عن دينهم ؟
لجأت قريش إلى أسلوب الاعتداء الجسدي .
58- اذكر بعض الاعتداءت الجسدية على النبي _ صلى الله عليه وسلم _ .
– عن عروة بن الزبير _ رضي الله عنه _ قال : ” سألت عبد الله بن عمرو عن أشد ما صنع المشركون برسول الله _ صلى الله عليه وسلم _ ، قال : رأيت عقبة بن أبي معيط جاء إلى النبي _ صلى الله عليه وسلم _ وهو يصلي فوضع رداءه في عنقه فخنقه خنقًا شديدًا ، فجاء أبو بكر حتى دفعه عنه وقال : أتقتلون رجلًا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم ” رواه البخاري .
– وعن ابن مسعود _ رضي الله عنه _ قال : (بينما رسول الله _ صلى الله عليه وسلم _ يصلي عند البيت وأبو جهل وأصحاب له جلوس ، وقد نحرت جزور بالأمس ، فقال أبو جهل :أيكم يقوم إلى سلا جزور بني فلان فيأخذه فيضعه في كتفي محمد إذا سجد ، فانبعث أشقى القوم ، فلما سجد النبي _ صلى الله عليه وسلم _ وضعه بين كتفيه ، قال :فاستضحكوا وجعل بعضهم يميل على بعض ، فأقبلت فاطمة فطرحته عنه ، فلما قضى النبي _ صلى الله عليه وسلم _ صلاته رفع صوته ثم دعا عليهم ، فوالذي بعث محمدًا بالحق لقد رأيت الذي سمى صرعى يوم بدر ) ، رواه البخاري .
(ثبت بالروايات الصحيحة أن الذي رمى الفرث عليه هو عقبة بن أبي معيط . )
( السلى ) هي الجلدة التي يكون فيها الولد يقال لها ذلك من البهائم .
– وعن أنس _ رضي الله عنه _ قال : ” لقد ضربوا رسول الله _ صلى الله عليه وسلم _ مرة حتى غشي عليه ، فقام أبو بكر فجعل ينادي : ويلكم أتقتلون رجلًا أن يقول ربي الله ؟ فتركوه وأقبلوا على أبي بكر ” ، رواه أبو يعلى . قال ابن حجر : بإسناد صحيح .
– وعن أبي هريرة _ رضي الله عنه _ قال : ” قال أبو جهل : يعفر محمد وجهه بين أظهركم ؟ فقيل : نعم ، فقال : واللات والعزى لئن رأيته لأطأن على رقبته ولأعفرن وجهه ، فأتى رسول الله وهو يصلي _ يزعم ليطأ رقبته _ فما فجأهم إلا وهو ينكص على عقبيه ويتقي بيديه ، فقالوا : مالك يا أبا الحكم ، قال : إن بيني وبينه لخندقًا من نار وهوْلًا وأجنحة ، فقال رسول الله _ صلى الله عليه وسلم _ : لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضوًا عضوًا ” ، رواه مسلم .
قال النووي : ” ولهذا الحديث أمثلة كثيرة في عصمته _ صلى الله عليه وسلم _ من أبي جهل وغيره ممن أراد به ضررًا ،
حاولت أم جميل _ زوجة أبي لهب _ أن تعتدي عليه بحجر فحماه الله منها ) ، رواه البيهقي .
59- اذكر بعض أنواع العذاب الذي لاقاه المسلمون .
– عن ابن مسعود _ رضي الله عنه _ قال : ” أول من أظهر إسلامه سبعة : رسول الله _ صلى الله عليه وسلم _ ، وأبو بكر ، وعمار وأمه سمية ، وصهيب ، وبلال ، والمقداد ،
فأما رسول الله _ صلى الله عليه وسلم _ فمنعه الله بعمه أبي طالب ،
وأما أبو بكر فمنعه الله بقومه ،
وأما سائرهم فأخذهم المشركون فألبسوهم أدرع الحديد وصهروهم في الشمس ، فما منهم إنسان إلا وقد واتاهم ( طاوعه ) على ما أرادوا إلا بلال فإنه هانت عليه نفسه في الله وهان على قومه فأعطوه الولدان وأخذوا يطوفون به شعاب مكة وهو يقول : أحد أحد ” ، رواه أحمد
ثم اشترى أبو بكر بلالًا فأعتقه .
ومر رسول الله _ صلى الله عليه وسلم _ بآل ياسر وهم يعذبون ، فقال : أبشروا آل ياسر فإن موعدكم الجنة ) ، رواه الحاكم .
وكان أول من استشهد في سبيل الله من هذه الأسرة خاصة وفي الإسلام عامة أم عمار _ سمية بنت خياط _، فقد طعنها أبو جهل بحربة في قبلها فماتت من جراء هذا الاعتداء العظيم ، ومات ياسر في العذاب . وتفننوا في إيذاء عمار ، حتى أجبر على أن يتلفظ بكلمة الكفر بلسانه ،
وقد ذكر جمهور المفسرين ، أن من أسباب نزول الآية الكريمة : (( مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِن بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ )) هو موقف عمار بن ياسر .
وممَّن نال الأذى والتعذيب خباب بن الأرت ، ومما ورد في ذلك : ( أنهم كانوايأخذون بشعر رأسه فيجذبونه جذبًا ، ويلوون عنقه بعنف وأضجعوه مرات عديدة على صخور ملتهبة ثم وضعوه عليها فما أطفأها إلا ودك ظهره . )
– وعن أبي ليلى الكندي قال :” جاء خباب إلى عمر فقال : ادن ، فما أحد أحق بهذا المجلس منك إلا عمار ، فجعل خباب يريه آثارًا بظهره مما عذبه المشركون ” ن رواه ابن ماجه .
ومن شدة الأذى سأل رسول الله _ صلى الله عليه وسلم _أن يدعو الله ليخفف من العذاب ، قال : ” أتيت النبي _ صلى الله عليه وسلم _ وهــو متوسد بردة وهو في ظل الكعبة ، وقد لقينا من المشركين شدة ، فقلت يا رسول الله : ألا تدعو لنا ؟ فقعد _وهو محمر وجهه _فقال : لقد كان مَن قبلكم ليمشط بمشاط الحديد ما دون عظمه من لحم أو عصب ، ما يصرفه ذلك عن دينه ، ويوضع المنشار على مفرق رأسه فيشق باثنين ما يصرفه ذلك عن دينه ، ولَيُتِمَّن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ما يخاف إلا الله ” رواه البخاري .
– وعن سعيد بن زيد _ رضي الله عنه _ قال : ” والله لقد رأيتني وإن عمر لموثقي على الإسلام قبل أن يسلم عمر ” ، رواه البخاري .
(لموثقي ) أي أن عمر ربطه بسبب إسلامه إهانة له وإلزامًا بالرجوع عن الإسلام .
واعتدوا على عمر بن الخطاب عندما أسلم ، وحاولوا قتله لولا أن أنقذه الله بالعاص بن وائل .
60- ما الحكمة من هذه الابتلاءات ؟
– ما حدث من تعذيب للمسـلمين هو تقرير وتأكيد لقوله تعالى : (( أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ )) ،
ولقوله تعالى : (( أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم ۖ مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللَّهِ ۗ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ )) ،
ولقوله تعالى : (( لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا )) .
– في الابتلاء تمحيص للمؤمنين ، ومحق للكافرين : (( لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَىٰ مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ ۗ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ )) ،
فلا بد من امتحان النفوس ليظهر بالامتحان الطيب من الخبيث .
– أن الأنبياء أشد الناس بلاء ، وهذا من المتقرر شرعًا وعقلًا أنه كلما تشبث المسلم بدينه وشرع ربه انهالت عليه البلايا والمحن من كل حدب وصوب .
ولهذا جاء في حديث سعد بن أبي وقاص – رضي الله عنه _ : ” أن رسول الله _ صلى الله عليه وسلم _ سئل : أي الناس أشد بلاء ؟ قال : الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل ، يبتلى الرجل على حسب دينه ، فإن كان في دينه صلابة اشتد بلاؤه ، وإن كان في دينه رقة ابتلي على قدر دينه ، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه خطيئة ” ، رواه الترمذي .
ولذلك كان أشد الناس بلاء في هذه الأمة هو الحبيب _ صلى الله عليه وسلم _ كما سبق .
– سنة الله في التكذيب بالرسل من قبل أقوامهم ، كما قال تعالى : (( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ )) ،
وقال تعالى : (( كَذَٰلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ )) ،
وقال تعالى : (( مَّا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ )) ،
قال ابن القيم : فالناس إذا أرسل إليهم الرسل بين أمرين : إما أن يقول أحدهم آمنا ، وإما أن لا يقول آمنا ، بل يستمر على عمل السيئات ، فمن قال آمنا امتحنه الرب عز وجل وابتلاه وألبسه الابتلاء والاختبار ليبين الصادق من الكاذب .
Related