نَقْدُ القَوْل .. وتقْدِير القائل .

في تاريخ :  06 ديسمبر 2015

نَقْدُ القَوْل .. وتقْدِير القائل .

تصحيح لغوي ، وتنسيق مقال أ/ إبراهيم باشا

يقول دكتور . خالد منصور الدريس :

بسم الله الرحمن الرحيم

من الأقوال المأثورة والمؤثِّرة ، تلك الحكمة القائلة : (( العقول العظيمة تُناقش الأفكار ، والعقول المتوسطة تُناقش الأحداث ، والعقول التافهة تُناقش الأشخاص )) . جواهر العقول د. وصال حمقة (ص182) .

 

سأجعل منها منطلقًا لفكرتي التي أريد أن أتحدث عنها في هذا المقال ، ومحورها : إن المفكر الناصح أو المصلح الصادق مثل الطبيب يهتم بمحاربة ” المرض ” لا محاربة ” المريض “؛ لأنه يحاول إنقاذه وعلاجه لا أن يقتله ،

لهذا أرى أن هناك فرقًا بين نقدنا للفكرة واحترامنا للمفكِّر ، أو بمعنى آخر يجب أن نفصل بين نقدنا للقول ورفضنا له ، وبين تقديرنا لشخص القائل من إخواننا وأصدقائنا وأقاربنا .

 

لا تقل لطفلك : إني أكرهك !

ولكي تتضح فكرة الفصل ، أورد هذا المثال من بعض كتب التربية التي تؤكد على حقيقة وهي : عندما يقع طفلك في خطأ ، فلا تقل له : ” إني أكرهك ” ؛

فهذه عبارة مدمرة للطفل تسلبه أهم شيء وهو الأمن النفسي المتمثل في حب الوالدين ،

ولكن خاطبه بقولك : ” إني أكره تصرفك الفلاني ” فيكون حديثك وتوجيهك محدَّدًا مقيَّدًا منصبًّا على قوله الخاطئ أو فعله وليس على شخصية الطفل نفسه ،

وهذا قريب الشبه جدًّا من الفكرة التي أطرحها هنا من ضرورة الفصل والتمييز بين رفضنا للقول ، مع تقديرنا للقائل .

 

لماذا نفصل بين القول والقائل ؟

لأن الأفكار ليست هي المفكر بالضرورة ، والقول ليس هو القائل حتمًا فكثيرًا ما تكون الأفكار السيئة والأقوال الخاطئة هي مجرد آراء قابلة للتغيير والتفنيد ،

فالشخص قد يقول فكرة ثم يتراجع أو يتخلى عنها في قادم الأيام لاعتبارات موضوعية ، أو لأن التجربة الواقعية أمدته بخبرة أكبر ورؤية أوضح ، فأصبح رفضه لها ضروريًّا ،

ثم لننظر إلى أنفسنا وتاريخنا مع الأفكار .

ألم نندفع في ماضينا البعيد أو القريب نحو بعض الأفكار التي ظهر لنا فيما بعد عدم جدواها أو استبان لنا ضعفها ؟

عندما كنا نحمل تلك الأفكار الخاطئة ، ألم نكن نحب أن يتعامل معنا المخالفون لنا بعزل أفكارنا السلبية عن أشخاصنا التي تتوق إلى الاحترام والتقدير والاهتمام بها ؟

ألسنا نحمل وقتها الكثير من الأفكار الجيدة والصحيحة ؟

هل من العدل والإنصاف أن نُبغَض أو يُقلَّل من ذكائنا وصدقنا بسبب فكرة أو أفكار محدودة ويتجاهل المخالفون إيجابياتنا الأخرى ؟

ألا يجب أن نعامل الناس الذي نختلف معهم كما نحب أن يعاملوننا به لو كنا نمر بالظروف نفسها التي يمرون بها الآن ؟

 

لا تلعنوه .. !

ولعل مما يصلح شاهدًا على تأصيل فكرة الفصل بين ” المرض ” و ” المريض ” ، ما ورد في السنة النبوية من لعن المعصية مطلقًا ، ومنعه عليه الصلاة والسلام للعن مرتكبها بشخصه وعينه .

 

ففي الحديث الثابت عن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ” لَعَنَ اللهُ الْخَمْرَ، وَلَعَنَ شَارِبَهَا، وَسَاقِيَهَا، وَعَاصِرَهَا، وَمُعْتَصِرَهَا، وَبَائِعَهَا، وَمُبْتَاعَهَا، وَحَامِلَهَا، وَالْمَحْمُولَةَ إِلَيْهِ، وَآكِلَ ثَمَنِهَا “

فهنا لعن عليه الصلاة والسلام شارب الخمر مطلقًا ، وهذا بلا شك ذم وتجريم لهذا الفعل ،

ولكنه عليه الصلاة والسلام في حديث صحيح آخر لما أوتي برجل شرب الخمر فأمر بجلده الحد ، قال أحد الصحابة رضوان الله عليهم : لعنه الله ما أكثر ما يؤتى به ، فقال عليه الصلاة والسلام : ” لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله “ ،

فنهى عن لعن الشخص بعينه مع كونه ارتكب كبيرة ملعون مقترفها .

 

وقد أدرك ابن تيمية رحمه الله هذا الفرق القائم على الفصل والتمييز بين مشروعية لعن الفعل بصورة عامة ، والنهي عن لعن الفاعل المعين ، فقال في منهاج السنة (5/101) : (فنهى عن لعن هذا المعين المدمن الذي يشرب الخمر ، وشهد له بأنه يحب الله ورسوله ، مع لعنه شارب الخمر عمومًا ، فعُلم الفرق بين العام المطلق ، والخاص المعين ) .

 

اكرهوا المعصية ، وارحموا العاصي !

 

وفي تقديري أن الحكمة من عدم توجيه عبارات جارحة للشخص بعينه مع اقترافه لكبيرة من الكبائر يظهر لنا في حديث أبي هريرة عند البخاري ،  لما أُتي بسكران ، فأقيم عليه الحد ، فقَالَ رَجُلٌ مَا لَهُ أَخْزَاهُ اللَّهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ” لَا تَكُونُوا عَوْنَ الشَّيْطَانِ عَلَى أَخِيكُمْ “ .

وهنا تتجلى رحمة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التعامل مع العصاة والمخطئين ،

وإن شئنا أن نتحدث بلغة العصر فيمكن أن نقول :
حافظَ عليه الصلاة والسلام على كرامة الإنسان المخطئ واحترم فيه جوانب إيجابية مهمة كحبه لله ورسوله ، ولم يُهمل ذلك عند نظرته له مع كون الشخص قد ارتكب كبيرة توجب اللعن ،

وقد نبه عليه الصلاة والسلام أن إهانة العاصي لفظيًّا قد تفتح أبوابًا من الشر تتسرب إلى وجدانه فيتعمق الانحراف في نفسه أكثر وأكثر ، وخوفًا من ذلك جاء التوجيه النبوي بألا نكون عونًا للشيطان على إخواننا .

 

لا يلزم من تكفير القول أن يُكفَّر القائل !

 

وكشاهد تأصيلي آخر على تبني فكرة ” الفصل ” بين حكم القول وحكم القائل ؛ يذهب المحققون من أهل العلم إلى أنه : لا ينبغي يُطلق على قول بأنه كفر ، أن يُحكم على كل من قال به من المسلمين بأنه كافر ، إلا إذا تحققت الشروط وانتفت الموانع في حقه ،

وفي تقرير ذلك يقول أبو العباس ابن تيمية : (حقيقة الأمر فى ذلك : أن القول قد يكون كفرًا ، فيطلق القول بتكفير صاحبه ، ويقال مَن قال : كذا فهو كافر ، لكن الشخص المعين الذى قاله لا يحكم بكفره حتى تقوم عليه الحجة التى يكفر تاركها ) مجموع فتاوى ابن تيمية (23/345) .

 

ويقول أيضًا : (المقصود هنا أن مذاهب الأئمة مبنية على هذا التفصيل بين النوع والعين ) . مجموع فتاواه (23/348) : يقصد بالنوع أي القول ، ويقصد بالعين أي الشخص القائل بعينه .

 

ولهذا ذهب علماء السلف إلى أن قول : القرآن مخلوق يعد كفرًا ، ولكنهم لم يكفروا كل من نطق به وتبناه بعينه وشخصه ،

فالإمام أحمد بن حنبل يحكم بأن مقولة : القرآن مخلوق تعد كفرًا ، ولكنه لم يكفر الخليفة المأمون وولاة الأمر من بعده ممن أظهروا القول بتلك المقولات ، مع أنهم قد سجنوه وعذبوه وجلدوه ، فهل هذا يعد تناقضًا منه رحمه الله كما قد يتوهم البعض ؟

الجواب : لا ؛ لأن الإمام رحمه الله يرى أن تكفير الشخص المعين المحدد كالمأمون يتطلب تحقق شروط وانتفاء موانع ، وقد تتخلف بعض الشروط فلا يصبح تكفير الشخص المعين وجيهًا ، وعندما تتوفر كل شروط تكفير المعين ، ينظر العلماء في موانع التكفير أي أشياء مثل الإكراه أو الجهل أو التأويل الخاطئ ، فيعذرون المعين بذلك مع تفصيلات ليس هذا محلها .

 

وفي ذلك قال أبو العباس ابن تيمية رحمه الله بعد أن ذكر مذهب الإمام أحمد في هذه المسألة: ( ما كان – يعني أحمد بن حنبل – يُكفر أعيانهم ، فإن الذي يدعو إلى القول أعظم من الذي يقول به ، والذى يعاقب مخالفه أعظم من الذي يدعو فقط ، والذى يكفر مخالفه أعظم من الذي يعاقبه ، ومع هذا فالذين كانوا من ولاة الأمور يقولون بقول الجهمية : إن القرآن مخلوق وأن الله لا يرى فى الآخرة وغير ذلك ويدعون الناس إلى ذلك .. فالإمام أحمد رحمه الله تعالى ترحم عليهم واستغفر لهم ؛ لعلمه بأنهم لم يتبين لهم أنهم مكذبون للرسول ، ولا جاحدون لما جاء به ، ولكن تأولوا فأخطأوا ، وقلدوا من قال لهم ذلك ) . مجموع فتاواه (23/348-349) .

 

هل يوجد سمين بلا مرض ؟

 

ولكي أقرب المسألة أكثر لغير المتخصصين أقول : كلنا نعلم الآن مقولة الأطباء : البدانة وزيادة الوزن سبب رئيس لأمراض القلب الخطيرة المميتة ،

ولكن هل بالضرورة كل شخص ” سمين ” يكون مصابًا بتلك الأمراض ؟

هناك أشخاص كثر من البدناء لم يصابوا بتلك الأمراض القاتلة ، وذلك يعود لعدم وجود أسباب تحقق المرض صحيًّا ، أو لوجود موانع صحية كثيرة قائمة لدى أولئك الأشخاص تجعل أمراض القلب لا تؤثر فيهم .

 

وبهذا تكون المقولة : البدانة قاتلة تشبه – نوعًا ما – مقولة خلق القرآن كفر .. ولكن لا يلزم أن كل بدين هو بالضرورة الحتمية مريض بمرض مميت لعدم توفر بعض الأسباب أو لوجود موانع تحول دون ذلك ،

وهذا ليس ببعيد من قول العلماء : لا يكفر المعين إلا بعد تحقق الشروط وانتفاء الموانع .

إذًا هناك فصل بين القول والقائل .

وتفريق بين إطلاق الحكم نظريًّا وتطبيقه على شخص بعينه تحديدًا .

 

نناقش أفكارًا لا أشخاصًا !

 

وبالنظر إلى ما تقدم أقول : إني عندما أناقش أي قول فإن طريقتي في ذلك أن أنخرط بصورة كاملة في تصوره والقيام بفحصه نقديًّا ؛ لأعرف مزاياه وعيوبه ، وأسبر أغواره مكتشفًا محاسنة ومساوئه ، وأعرضه على واقع الحياة العملية لأشاهده يتحرك صعودًا ونزولًا وفي كل الاتجاهات ، فإن توصلت إلى قناعة كافية بصلاحيته سأقبله مستندًا على الحجج والبراهين ، وإن رفضته لمصادمته للمبادئ الفكرية المنسجمة مع القيم ، أو لقصور في أدلته أو غلبة جانب السلبيات فيه ، فعلي أن أحدد طبيعة رفضي ،

فإن كان القول ينهض على أساس واه فهو كالمرض المميت للفكر أو كالعدو المحارب لسلامة تصورات العقل وأحكامه ، وهنا سأقاتله بكل ضراوة وبلا أدنى هوادة ، وهذا ما أفعله حين أناقش بعض الأفكار كمبدأ النسبية المطلقة الداعي إلى نزع القداسة عن كل شيء مقدس .

 

لكن المحرج حقًّا هو أن بعض الأصدقاء أوالمقربين ممن صرحوا بذلك القول أو كتبوه قد يسبق إليهم سوء الفهم ، فيظنون أن هجومي على القول وبنائه الفكري ، كان يستهدف الانتقاص من أشخاصهم ، مع أن مناقشتي للفكرة ليست في حضورهم ولم أتعرض لأسمائهم من قريب أو بعيد ، والفكرة نفسها شائعة وتتردد بكثرة ، ثم هم يعلمون أني أحتفظ لهم بتقدير شخصي بسبب ما يتصفون به من خصال مميزة ولأنهم يحملون العديد من القيم الإيجابية التي تجبرني على احترامهم ومودتهم .

 

كل ما في الأمر أني أناقش الأفكار على فرضية : أني قد أقبلها بعد الفحص والمناقشة ،

لهذا فواقع الحال : هذه الحماسة التي تشعرون بها في مقالاتي أحيانًا لا تفسير لها إلا لأني أناقش نفسي ، وأحاور عقلي ، وأتجادل مع عالم أفكاري لا أشخاص أصدقائي .

والطريف في الأمر أن أولئك الأصدقاء كتبوا أشياء أو قالوها ضد أفكار أنافح عنها ، ومع ذلك لم أغضب منهم أبدًا ، فلا يتطرق إلى نفسي أني المقصود لذاتي ، ولا أقوم بعمليات إسقاط نفسي ، وأقول : هذه إهانة موجهة لي !
قليلًا من الإنصاف أيها الأصدقاء .. !
قليلًا من العقلانية أيها الأصفياء .. !

 

الحرب على المرض لا المريض !

لذلك أقول لنفسي دائمًا يا أيها الفقير إلى رحمة خالقك :
اكره الخطأ ولكن لا تكره المخطئ .
أبْغِض بكل قلبك المعصية ولكن ارحم العاصي .
انتقد القول ولكن احترم القائل .
ارفض الفكرة ولا ترفض كل ما عند المفكِّر .

 

لن أفتر عن تذكير نفسي دائمًا :

إن مهمة الطبيب أن يقضي على ” المرض ” لا على ” المريض ” .

فهدفي أن أعالج جزئية المرض فقط لأنقذ الشخص ككل ، فإن لم أميز بين المريض ومرضه ، فسأقتل المريض نفسه وسأقضي على كل شيء جهلًا وبغيًا ،

وبهذا تتحول المصلحة الخاصة إلى مفسدة عامة ، وينقلب النفع الجزئي الذي أردته إلى ضرر كلي لطالما تحاشيته ، وهذا ما لا أريده بكل تأكيد .

 

 

 

 

 

اترك تعليقاً