شرح أحاديث رياض الصالحين . * باب اليقين والتوكُّل * شرح العلامة الشيخ / محمد بن صالح بن عثيمين .

في تاريخ :  12 مارس 2016

شرح أحاديث رياض الصالحين .

* باب اليقين والتوكُّل *

شرح العلامة الشيخ / محمد بن صالح بن عثيمين .

تصحيح لُغَوي و تنسيق مقالٍ أ/ إبراهيم باشا .

قال الله تعالى: (﴿وَلَمَّا رَأى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَاناً وَتَسْلِيماً﴾) [الأحزاب:22]،

وقال تعالى: (﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ)﴾ [آل عمران: 173، 174]،

وقال تعالى: (﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ﴾) [الفرقان:58]،

وقال تعالى: (﴿وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾) [إبراهيم:11]،

وقال تعالى: (﴿فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ﴾) [آل عمران:159]،

والآيات في الأمر بالتوكل كثيرة معلومة.

وقال تعالى: (﴿وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ)﴾ [الطلاق:3]، أي: كافية.

وقال تعالى: (﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾) [الأنفال:2]،

والآيات في فضل التوكل كثيرة معروفة.

 

الشرح :
جمع المؤلف بين اليقين والتوكل ؛ لأن التوكل ثمرة من ثمرات اليقين،

فاليقين هو قُوَّة الإيمان والثبات، حتى كأن الإنسان يرى بعينه ما أخبر الله به رسوله من شدَّة يقينه،

فاليقين هو ثبات وإيمان ليس معه شك بوجهٍ من الوجوه، فيرى الغائب الذي أخبر الله- تعالى – عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنه حاضر بين يديه، وهو أعلى درجات الإيمان!

هذا اليقين يثمر ثمرات جليلة، منها التوكل على الله عز وجل،

والتوكل على الله اعتماد الإنسان على ربه- عز وجل – في ظاهره وباطنه، في جلب المنافع ودفع المضار: (﴿وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾) [الطلاق:3].

ففي هاتين المرتبتين – اليقين والتوكل – يحصل للإنسان مقصوده في الدنيا والآخرة، ويستريح ويعيش مطمئنًا سعيدًا ؛ لأنه موقن بكل ما أخبر الله به ورسوله ومُتوَكِّل على الله عز وجل.

ثم ذكر المؤلف آيات في هذا الباب، منها قوله تعالى: (﴿وَلَمَّا رَأى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ﴾) .

الأحزاب: طوائف من قبائل متعددة تألَّبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم واجتمعوا على حربه، وتجمَّع نحو عشرة آلاف مقاتل من قريش وغيرهم، وحاصروا المدينة؛ ليقضوا على النبي صلى الله عليه وسلم،

وحصل في هذه الغزوة أزمة عظيمة على أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم ، قال الله تبارك وتعالي في وصفها: (﴿وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ﴾) من شدة الخوف (﴿وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا﴾) الظنون البعيدة (﴿هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا﴾) ،

فانقسم الناس في هذه الأزمة العصيبة العظيمة إلى قسمين، بيَّنهما الله- عز وجل – في هذه الآيات قال: (﴿هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا)﴾.

القسم الأول: قال الله عنهم: (﴿وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُورًا)﴾ المنافقون الذين يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر، والذين في قلوبهم مرض من المؤمنين وعندهم نقص في يقينهم، قالوا: ما وَعَدنا الله ورسوله إلا غُرورًا، قالوا: كيف يقول محمد إنه سيفتح كسرى وقيصر وصنعاء، وهو الآن محاصر من هؤلاء الناس. كيف يمكن هذا؟ فقالوا: ﴿مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُورًا﴾.

أما القسم الثاني: المؤمنون، قال الله عنهم: (﴿وَلَمَّا رَأى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ)﴾ ،

وانظر إلى الفرق بين الطائفتين، هؤلاء لما رأوا الأحزاب، ورأوا هذه الشدة، علموا أنه سيعقبها نصر وفرج، وقالوا: هذا ما وعدنا الله ورسوله، وصدق الله ورسوله، فسيكون النصر وستُفْتَحُ ممالك قيصر وكسرى واليمن، وهكذا كان ولله الحمد .

و الشاهد قوله: (﴿هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ﴾) ،

و هذا غاية اليقين، أن يكون الإنسان عند الشدائد، وعند الكرب، ثابتًا مؤمنًا موقنًا،

عكس مَن كان توكُّلُه و يقينه ضعيفًا، فإنه عند المصائب و الكرب ربما ينقلب على وجهه، كما قال الله: ﴿(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ)﴾ أي على طرف (﴿فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ﴾) [الحج:11] .

كثير من الناس ما دام على عافية فهو مطمئن، و لكن إذا ابتُلى – و العياذ بالله- انقلب على وجهه، فرُبَّما يصل إلى حَدِّ الردَّة و الكفر، و يعترض على الله بالقضاء و القدر، و يكره تقدير الله، و بالتالي يكره الله و العياذ بالله؛ لأنه كان في الأول لم يصبه أذى و لا فتنة، و لكنه في الثاني أصابته الفتنة فانقلب على وجهه.

و في هذه الآيات و أشباهها دليل على أنه ينبغي للإنسان أن يخاف، و يوجل، و يخشى من زيغ القلب، و يسأل الله دائما الثبات، فإنه ما من قلب من قلوب بني آدم إلا وهو بين أصبعين من أصابع الرحمن، يقلبه كيف يشاء، إن شاء أقامه، و إن شاء أزاغه و العياذ بالله.
فنسأل الله مُقَلِّب القلوب أن يُثَبت قلوبنا على طاعته، و أن يرزقنا الاستقامة على دينه و الثبات عليه.

الآية الثانية: قوله تعالى: (﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾) .

هذه الآية نزلت في الصحابة- رضي الله عنهم – حيث حصل عليهم ما حصل في غزوة أُحُد، مما أصابهم من القرح و الجروح الشُّهداء، فقيل لهم: إن أبا سفيان كان قد عزم على الكرَّة عليكم، و جمع لكم الناس، فندبهُمُ النبي عليه الصلاة و السلام إلى مُلاقاته و مقابلته، فاستجابوا الله و الرسول من بعد ما أصابهم القرح، وأصيبوا بهذه النكبة العظيمة، فقُتِل منهم سبعون رجلًا استشهدوا في سبيل الله، و حصل للنبي صلى الله عليه و سلم و لِغَيره من صحابته- رضي الله عنهم – ما حصل، و مع هذا استجابوا لله و للرسول.

قال الله تعالى: (﴿الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظمِ (172) الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ﴾) [آل عمران:173]،

يعني أن أبا سفيان ومن معه ممن بقي من كُبراء قريش جمعوا للنبي صلى الله عليه و سلم يريدون استئصاله، و لكن يأبى الله إلا أن يتم نُوره.

قيل للصحابة: اخشوا هؤلاء، ولكنهم ازدادوا إيمانًا ؛ لأن المؤمن كلما اشتدت به الأزمات ازداد إيمانًا بالله ؛ لأنه يؤمن بأن النصر مع الصبر و أن الفرج مع الكرب ، و أن مع العسر يسرًا ،

ولهذا زادهم إيمانًا هذا القول ، و قالوا: ﴿حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾ ،

﴿حَسْبُنَا﴾ أي كافينا في مهماتنا و ملمَّاتنا ﴿وَنِعْمَ الْوَكِيل﴾ إنه نعم الكافي جل و علا ، فإنه نعم المولى و نعم النصير .

و لكنه إنما يكون ناصرًا لمن انتصر به و استنصر به، فإنه- عز وجل – أكرم الأكرمين و أجود الأجودين، فإذا اتَّجه الإنسان إليه في أموره، أعانَهُ و سَاعَدَهُ و تَوَلَّاه،

و لكن البلاء من بني آدم، حيث يكون الإعراض كثيرًا في الإنسان، و يعتمد على الأمور المادِّية دون الأمور المعنوية.

قال تعالى: (﴿فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ﴾) ، ذهبوا و لكنهم لم يجدوا كيدًا، و أبو سفيان ومن معه ولَّوا على أدبارهم، و لم يَكرُّوا على الرسول صلى الله عليه و سلم، فكتِبَتْ للصحابة – رضي الله عنهم- غزوة من غير قتال. كُتِبتْ هذه الرجعة غزوة من غير قتال، قال الله تعالى: (﴿فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ﴾) .

ثم قال: (﴿إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾) .
﴿يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ﴾ أي: يخوفكم أنتم أولياءه، أي: يُلقي في قلوبكم الخوف من أوليائه، فلا تخافوهم و خافونِ إن كنتم مؤمنين.

فالشيطان يأتي إلى المؤمن، يقول: احذر أن تتكلم في فلان؛ لأنه ربما يسجنك و ربما يفعل كذا و كذا، فيخوِّفك ،

و لكن المؤمن لا يمكن أن يخاف أولياء الشيطان؛ لأن الله قال: ﴿(فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا﴾) [النساء:76]. بالنسبة للحق.

فعلى الإنسان أن لا يخاف في الله لَوْمَةَ لائم، و أن لا يخاف إلا الله، و لكن يجب أن يكون سَيْرُه على هدى من الله عز وجل، فإذا كان سَيْرُه على هدى من الله، فلا يخافنَّ أحدًا.

الآية الثالثة: قوله تعالى: (﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ)﴾ [الفرقان:58]،

وهو الله عز وجل، اعتمد عليه في أمورك كلِّها، دقيقها و جليلها؛ لأن الله- عز وجل – إذا لم ييسِّر لك الأمور لم يتيسَّر لك،

ومن أسباب تيسيره، أن تتوكل عليه، لاسيما إذا داهمتك الأمور، و كثرت الهموم، و ازدادت الخطوب، فإنه لا ملجأ لك إلا الله عز وجل، فعليك بالتَّوكل عليه و الاعتماد عليه حتى يكفيك.

و في قوله تعالى: (﴿الَّذِي لا يَمُوتُ)﴾ دليل على امتناع الموت على الرب عز وجل، قال الله تعالى: (﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ والإكرام﴾) [الرحمن:26،27]،

فالله عز وجل – لا يموت لكمال حياته، فإنه هو الأول الذي ليس قبله شيء، وهو الآخر الذي ليس بعده شيء، ثم إنه سبحانه و تعالى – لا ينام أيضًا، لكمال حياته و قَيُّومِيَّته ، قال الله تعالى: (﴿اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ﴾) [البقرة:255] ،

أما الإنس و الجن فإنهم ينامون و يموتون، و أما الرب- عز وجل – فإنه لا ينام؛ لأنه غنيٌّ عن النوم، أما البشر فإنهم في حاجة إلى النوم؛ لأن الأبدان تتعب و تسأم و تـَمَل، و النوم راحة عما مضى من التعب، و تجديد نشاط عما يستقبل من العمل، و أما الله سبحانه و تعالى فلا تأخذه سنة و لا نوم.

و قال الله تعالى: (﴿وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾) [الطلاق:3] ، أي: كافيه، فإذا توكَّلت على الله كفاك كل شيء، و إذا توكل على غير الله و كلك الله عليه، و لكنك تُخذل و لا تتحقق لك أمورك.

و قال الله تعالى: (﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا ﴾ [الأنفال:4،2] .

قوله: ﴿إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ﴾ أي: إذا ذُكِرت عظمته و جلاله و سلطانه، خافت القلوب، ووَجِلَت و تأثَّر الإنسان،

حتى إن بعض السلف إذا تُليت عليه آيات الخوف يمرض أيامًا حتى يعوده الناس، أما نحن فقلوبنا قاسية، نسأل الله أن يلينها فإنه تتلى علينا آيات الخوف و تمر و كأنها شراب بارد، فلا نتأثَّر بذلك، و لا نتعظ إلا من رحم الله، نسأل الله العافية.

لكن المؤمن: هو الذي إذا ذُكر الله وجل قلبه و خاف.

كان بعض السلف إذا قيل له: اتق الله ارتعدَ، حتى يسقط ما في يده.

(﴿وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا)﴾ إذا سمِعوا كلام الله- عز وجل – ازدادوا إيمانًا من وجهين:
الوجه الأول: التصديق بما أخبر الله به من أمور الغيب الماضية و المستقبلة.

الوجه الثاني: القُبول و الإذعان لأحكام الله، فيمتثِلُون ما أمر الله به، فيزداد بذلك إيمانهم و ينتهون عما نهى الله عنه، تقربًا إليه و خوفًا منه، فيزداد إيمانهم، فهم إذا تليت عليهم آياته ازدادوا إيمان من هذين الوجهين.

و هكذا إذا رأيت من نفسك أنك كلما تلوت القرآن ازددت إيمانًا ، فإن هذا من علامات التوفيق.

أما إذا كنت تقرأُ القرآن و لا تتأثر به، فعليك بمُداواة نفسك، لا أقول أن تذهب إلى المستشفى، لتأخذ جرعة من حُبوب أو مِياه أو غيرها، و لكن عليك بِمدَاواة القلب، فإن القلب إذا لم ينتفع بالقرآن و لم يتعظ به، فإنه قلب قاس مريض، نسأل الله العافية.

فأنت يا أخي طبيب نفسك لا تذهب إلى الناس، اقرأ القرآن فإن رأيت أنك تتأثر به إيمان و تصديقًا و امتثالًا فهنيئًا لك، فأنت مؤمن، و إلا فعليك بالدَّواء،

داوِ نفسك من قبل أن يأتيك موت لا حياة بعده، وهو موت القلب، أما موت الجسد فبعده حياة، و بعده بعث و جزاء و حساب.

و قوله عز وجل: (﴿وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾) على ربهم فقط يتوكلون ، أي: يفوِّضون أمورهم كلها إلى مالكهم و مدبرهم خاصة، لا إلى أحد سواه، كما يدل عليه تقديم المعمول على عامله،

و الجملة معطوفة على الصلة، إشارة إلى الاختصاص و الحصر، و أنَّهم لا يتوكلون إلا على الله عز وجل؛ لأن غير الله إذا توكلت عليه؛ فإنما توكلت على شخص مثلك،و لا يحرص على منفعتك كما تحرص أنت على منفعة نفسك، و لكن اعتمد على الله-عز وجل – في أمور دينك و دنياك.

(﴿الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾) .يقيمون الصلاة: يأتون بها مستقيمة بواجباتها وشروطها وأركانها، ويكملونها بمكمِّلاتها،

ومن ذلك أن يصلُّوها في أوقاتها، ومن ذلك أن يصلوها مع المسلمين في مساجدهم؛ لأن صلاة الجماعة كان لا يختلَّف عنها إلا منافق أو معذور، قال ابن مسعود رضي الله عنه: (لقد رَأيتُنا- يعني مع الرسول عليه الصلاة والسلام – وما يَتَخَلَّفُ عنها – أي عن الصلاة – إلا منافق معلوم النفاق أو مريض، ولقد كان الرجل يُؤتَى به يُهادَى بين الرَّجلين، يعني مريض ويحمله رجلان اثنان، حتى يُقام في الصف) ، رواه مسلم .

لا يثنيهم عن الحضور إلى المساجد حتى المرض رضي الله عنهم.

أما كثير من الناس اليوم، فإنهم على العكس من ذلك، فَتَراهم يتكاسلون ويتأخرون عن صلاة الجماعة ، ولهذا لو قارنت بين الصلوات النهارية وصلاة الفجر، لرأيت فرقًا بينًا؛ لأن الناس يلحقهم الكسل في صلاة الفجر من نوم، ولا يهتمون بها كثيرًا.

(﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾) أي: ينفقون أموالهم في مرضاة الله، وحسب أوامر الله، وفي المحل المناسب.

(﴿أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا﴾) حقًّا: توكيد للجملة التي قبلها، أي: أحق ذلك حقًّا. ﴿(لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ﴾) ،

نسأل الله أن يجعلنا وإياكم منهم بِمَنِّه وكرمه، إنه جواد كريم.

وأما الأحاديث:

* * *
74- فالأول: عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ” قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عُرضت عليَّ الأمم، فرأيت النبي ومعه الرُّهيط، والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي وليس معه أحد إذ رُفع لي سواد عظيم فظننت أنهم أمتي، فقيل لي: هذا موسى وقومه، ولكن انظر إلى الأفق، فنظرت فإذا سواد عظيم، فقيل لي: انظر إلى الأفق الآخر، فإذا سواد عظيم، فقيل لي هذه أمتك، ومعهم سبعون ألفًا يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب) ، ثم نهض فدخل منزله، فخاض الناس في أولئك الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، فقال بعضهم: فَلَعَلَّهُم الذين صَحِبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال بعضهم: فَلَعَلَّهُم الذين وُلِدوا في الإسلام، فلم يشركوا بالله شيئًا- وذكروا أشياء – فخرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (ما الذي تخوضون فيه؟) فأخبروه فقال: (هم الذين لا يَرْقُون، ولا يستَرِقون ولا يتطيَّرون، وعلى ربهم يتوكلون) ، فقام عكاشة بن محصن فقال: ادع الله أن يجعلني منهم، فقال: (أنت منهم) ، ثم قام رجل آخر فقال: ادع الله أن يجعلني منهم فقال: (سبقك بها عكاشة) “ ، رواه البخاري ومسلم.

((الرُّهَيْطُ)) بضم الراء: تصغير رَهْطٍ، وهم دون عشرة أنفس.

((والأفُقُ)): الناحية والجانب.

((وعُكَاشَةُ)) بضم العين وتشديد الكاف وبتخفيفها والتشديد أفصح.

 

الشرح:
بعدما ساق المؤلف- رحمه الله تعالى – الآيات، ذكر هذا الحديث العظيم، الذي أخبر فيه النبي صلى الله عليه وسلم أن الأمم عُرضت عليه، أي: أُرِىَ الأمم عليه الصلاة والسلام وأنبياءهم. يقول: (فَرأيتُ النبيَّ ومَعَه الرُّهيط) أي: معه الرهط القليل، ما بين الثلاثة إلى العشرة.

(والنبيَّ ومَعَه الرجلُ والرجلان، والنبيَّ وَلَيسَ مَعَهُ أَحَدٌ) أي: أن الأنبياء- عليهم الصلاة والسلام – ليسوا كلهم قد أطاعهم قومُهم، بل بعضهم لم يطِعْه أحد من قومهم، وبعضهم أطاعه الرهط، وبعضهم أطاعه الرجل والرجلان،

وانظر أنَّ نوحًا عليه الصلاة والسلام مَكَثَ في قومه ألف سنة إلا خمسين عامًا، يُذكِّرُهم بالله، ويدعوهم إلى الله، قال الله تعالى: (﴿وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ﴾) [هود:40]،

كل هذه المدة ولم يَلق منهم قبولًا، بل ولا سَلِمَ من شرِّهم، قال نوح: ﴿(وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا﴾) [نوح:7]، وكانوا يمرون به ويسخرون منه.

يقول: (رُفِعَ ِلي سَوادٌ) أي: بشر كثير فيهم جَهْمَة من كثرتهم فظَنَنْتُ أنهم أمَّتي فقيل لي هذا موسى وقومُه) ؛ لأن موسى من أكثر الأنبياء أتباعًا، بُعث في بني إسرائيل، وأنزل الله عليه التوراة التي هي أُمُّ الكتب الإسرائيلية.

قال: (ثمَّ قيل لي انظُر ، فنظرتُ إلى الأُفُق فإذا سواد عظيم – وفي لفظ : قد سد الأفق – فقيل: انظُر الأُفُق الثاني ، فنظرتُ إليه فإذا سوادٌ عظيم، فقِيلَ لي هذه أُمَّتك) ، فالرسول صلى الله عليه وسلم أكثر الأنبياء تابعًا ؛ لأنه منذ بُعِثَ إلى يوم القيامة والناس يتَّبعونه، صلوات الله وسلامه عليه، فكان أكثر الأنبياء تابعًا، قد ملأ أتباعه ما بين الأفقين.

(ومَعَهُم سَبعون ألفًا يَدْخُلون الجنَّةَ بغيرِ حسابٍ ولا عذاب) أي: مع هذه الأمة سبعون ألفًا يدخلون الجنة، لا يحاسبون، ولا يعذبون، من الموقف إلى الجنة بدون حساب ولا عذاب ،

اللهم اجعلنا منهم.

وقد ورد أن مع كل واحد من السبعين الألف سبعين ألفًا أيضًا .

(ثمَّ نَهَضَ فدخَلَ منزِلَهُ فَخَاضَ الناس في أولئك) … قال بَعضُهُم: ” فَلَعَلَّهُم الذين صَحِبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم” – يعني لَعَلَّهُم الصحابة رضي الله عنهم-، وقال آخرون: ” لَعَلَّهُم الذين وُلِدوا في الإسلام، فلم يشركوا بالله شيئًا وذكروا أشياء ” وكُلٌّ أتى بما يظن، فخرج عليهم النبي صلى الله عليه وسلم فسألهم عما يخوضون فيه فأخبروه فقال صلى الله عليه وسلم : (هُمُ الذين لا يَرْقُونَ ولا يسْتَرقون ولا يَكْتَوون ولا يتطيَّرون وعلى ربِّهم يَتَوكَّلُون)

هذا لفظ مسلم ، وفيه: (لا يَرْقُونَ).

والمؤلف رحمه الله قال:إنه متفق عليه، وكان ينبغي أن يبين أن هذا اللفظ لفظ مسلم فقط دون رواية البخاري، وذلك أن قوله: (لا يرقون) كلمة غير صحيحة، ولا تصح عن النبي علبه الصلاة والسلام ؛ لأن معنى (لا يرقون) أي لا يقرؤون على المرضى، وهذا باطل، فإن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يرقي المرضى. وأيضًا القراءة على المرضى إحسان، فكيف يكون انتفاؤها سببًا لدخول الجنة بغير حساب ولا عذاب.

فالمهم أن هذه اللفظة لفظة شاذة، وخطأ لا يجوز اعتمادها، والصواب: (هُمُ الذين لا يستَرقُون) أي: لا يطلبون من أحد أن يقرأ عليهم إذا أصابهم شيء ؛ لأنهم معتمدون على الله ؛ ولأن الطلب فيه شيء من الذل ؛ لأنه سؤال الغير، فرُبَّما تحرجه ولا يريد أن يقرأ، وربما إذا قرأ عليك لا يبرأ المرض فتتهمه، وما أشبه ذلك، لهذا قال لا يسترقون.

قوله: (ولا يكْتَوُون) يعني: لا يطلبون من أحد أن يكويهم إذا مرضوا ؛ لأن الكيَّ عذاب بالنار، لا يُلجأ إليه إلا عند الحاجة.

وقوله: (ولا يَتَطَيَّرون) يعني: لا يتشاءمون لا بمَرْئيٍّ، ولا بمسموع، ولا بمشموم، ولا بمذُوق، يعني: لا يتطيرون أبدًا.

وقد كان العرب في الجاهلية يتطيرون، فإذا طار الطير وذهب نحو اليسار تشاءموا، وإذا رجع تشاءموا، وإذا تقدم نحو الأمام صار لهم نظرٌ آخر، وكذلك نحو اليمين وهكذا.

والطِّيَرة محرَّمة، لا يجوز لأحد أن يتطير لا بطيور، ولا بأيام، ولا بشهور، ولا بغيرها، وتطيَّر العرب فيما سبق بشهر شوال إذا تزوج الإنسان فيه، ويقولون: إن الإنسان إذا تزوج في شهر شوال لم يوفَّق، فكانت عائشة رضي الله عنها تقول: سبحان الله، إن النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها في شوال، ودخل بها في شوال، وكانت أحب نسائه إليه ، كيف يُقال إن الذي يتزوج في شوال لا يوفَّق.

وكانوا يتشاءمون بيوم الأربعاء، ويوم الأربعاء يوم كأيام الأسبوع ليس فيه تشاؤم.

وكان بعضهم يتشاءم بالوجوه، إذا رأى وجها يُنْكِرُهُ تشاءَمَ، حتى إن بعضهم إذا فتح دُكَّانه، وكان أول من يأتيه رجل أعور أو أعمى، أغلق دكانه، وقال اليوم لا رزق فيه.

والتشاؤم ، كما إنه شرك أصغر، فهو حسرة على الإنسان، فيتألم من كل شئ يراه،

لكن لو اعتمد على الله وترك هذه الخرافات، لَسَلِم، ولصار عيشُهُ صافيًا سعيدًا.

أما قوله: (﴿وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾) فمعناه: أنهم يعتمدون على الله وحده في كل شيء، لا يعتمدون على غيره ؛ لأنه جل وعلا قال في كتابه: (﴿وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾) [الطلاق:3]،

ومَن كان الله حسبه فقد كُفِيَ كل شيء.

هذا الحديث العظيم فيه صفات من يدخل الجنة بلا حساب ولا عذاب.

فهذه أربع صفات: لا يسترقون، ولا يكتوون، ولا يتطيَّرون، وعلى ربهم يتوكلون.

والشاهد للباب قوله: ﴿(وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ)﴾.

فقام عُكَّاشة بن محصن رضي الله عنه، فقال: يا رسول الله((ادْعُ الله أن يجعلني منهم))، بادَرَ إلى الخيرِ وَسَبق إليه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أنتَ مِنْهُم)) ،

ولهذا نحن نشهد الآن بأن عكاشة بن محصن – رضي الله عنه- يدخل الجنة بلا حساب ولا عذاب ؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام قال له: ((أنت منهم)).

((فقام رجل آخر فقال: ادْعُ الله أن يجعلني منهم ، قال: سَبَقَك بها عكاشة)) فردَّه النبي عليه الصلاة والسلام، لكنه ردٌّ لطيف، لم يقُل لست منهم، بل قال: ((سَبَقَك بها عكاشة)) .

فقيل: لأنه كان يعلمُ بأن هذا الذي قال ادعُ الله أن يجعلني منهم منافق، والمنافق لا يدخل الجنة، فضلًا عن كونه يدخلها بغير حساب ولا عذاب.

وقال بعض العلماء: بل قال ذلك من أجل أن لا ينفتح الباب، فيقوم من لا يستحق أن يدخل الجنة بغير حساب ولا عذاب، ويقول ادعُ الله أن يجعلني.

وعل كل حال، فنحنُ لا نعلم علمًا يقينًا بأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يدعُ الله له إلا لسبب معين، فالله أعلم.

لكننا نستفيد من هذا فائدة، وهو الردُّ الجميل من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ لأن قوله: ((سَبَقَكَ بها عُكَّاشة)) لا يجرحه ولا يُحزنه،

وسبحان الله، صارت هذه مثلًا إلى يومنا هذا، كُلَّما طلب الإنسان شيئًا قد سُبِق به قيل: سبَقكَ بها عكاشة.

أورد بعض العلماء إشكالًا على هذا الحديث، وقال: إذا اضطرَّ الإنسان إلى القراءة، أي إلى أن يطلب من أحد أن يقرأ عليه، مثل أن يصاب بعين، أو بسحر، أو أُصيب بجِنّ واضطرَّ، هل إذا ذهب يطلب من يقرأ عليه، يخرج من استحقاق دخول الجنة بغير حساب ولا عذاب؟

فقال بعض العلماء: نَعَمْ هذا ظاهر الحديث، وليعتمد على الله وليتصبر ويسأل الله العافية.

وقال بعض العلماء: بل إن هذا فيمَن استَرقَى قبل أن يصاب، أي: بأن قال: اقرأ عليَّ أن لا تصيبني العين، أو أن لا يصيبني السحر أو الجن أو الحمَّى، فيكون هذا من باب طلب الرقية لأمر متوقَّع لا واقع، وكذلك الكيُّ.

فإذا قال إنسان: الذين يكوون غيرهم هل يُحرمون من هذا؟

الجواب: لا ؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ((ولا يَكْتَوون)) أي: لا يطلبون من يكوِيهم، ولم يقل ولا يكوون،

وهو عليه الصلاة والسلام قد كوى أكحَلَ سعد بن معاذ رضي الله عنه، فسعد بن معاذ الأوسي الأنصاري – رضي الله عنه- أُصيب يوم الخندق في أكحله فانفجر الدم،

والأكحل إذا انفجر دمه قضي على الإنسان، فَكَواه النبي صلى الله عليه وسلم في العِرقِ حتى وقف الدم،

والنبي صلى الله عليه وسلم هو أول من يدخل الجنة بغير حساب ولا عذاب.

فالذين يكوون مُحسِنُون، والذين يقرؤون على الناس محسنون،

ولكن الكلام على الذين يستَرْقُون، أي يطلبون من يقرأُ عليهم، أويكتوون، أي: من يطلبون من يكويهم،

والله الموفق.

 

* * *

76- الثالث: عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ((حسبُنا اللهُ ونِعْمَ الوَكيل، قالها إبراهيم صلى الله عليه وسلم حين أُلقيَ في النار ، وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قالوا: إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانًا وقالوا: حسبُنا الله ونعمَ الوكيل)) رواه البخاري.

وفي رواية له عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان آخر قول إبراهيم صلى الله عليه وسلم حين أُلقِي في النار: ((حسبي الله ونعمَ الوكيل)).

 

الشرح :
وإبراهيم ومحمد- علهما الصلاة والسلام- هما خليلان لله عز وجل.

قال الله تعالى: ﴿وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا﴾  .[النساء:125]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الله قد اتَّخذني خليلًا كما اتَّخذ إبراهيمَ خليلًا)) رواه مسلم ،

والخليل: معناه الحبيب الذي بلغت محبته الغاية،

ولا نعلم أنَّ أحدًا وُصف بهذا الوصف إلا محمدًا صلى الله عليه وسلم وإبراهيم، فهما الخليلان.

وإنك تسمع أحيانًا يقول بعض الناس: إبراهيم خليلُ الله، ومحمد حبيب الله، وموسى كَلِيم الله.

والذي يقول: إن محمدًا حبيب الله في كلامه نظر ؛ لأن الخُلَّة أبلغ من المحبة، فإذا قال: محمد حبيب الله، فهذا فيه نوع نقصٍ من حق الرسول عليه الصلاة والسلام ؛ لأن أحباب الله كثيرون، فالمؤمنون يحبهم الله، والمحسنون والمقسطون يحبهم الله، والأحباب كثيرون لله ، لكن الخُلَّة لا نعلم أنها ثبتت إلا لمحمد وإبراهيم عليهم الصلاة والسلام ،

وعلى هذا فنقول: الصواب أن يقال: إبراهيم خليل الله، ومحمد خليل الله، وموسى كليم الله عليهم الصلاة والسلام ، على أن محمدًا صلى الله عليه وسلم قد كلَّمه الله- سبحانه وتعالى – كلامًا بدون واسطة، حيث عرج به إلى السماوات السبع.

هذه الكلمة: ((حسبنا الله ونعم الوكيل)) قالها إبراهيم حينما أُلقيَ في النار، وذلك أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام دعا قومه إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وأبَوْا، و أصَرُّوا على الكفر والشرك ، فقام ذات يوم على أصنامهم فكسَّرها، وجعلهم جُذاذًا، إلا كبيرًا لهم، فلما رجعوا وجدوا آلهتهم كُسِّرت، فانتقموا- والعياذ بالله- لأنفسهم ، فقالوا ما نصنع بإبراهيم؟

﴿قَالُوا حَرِّقُوهُ﴾ انتصارًا لآلهتهم ﴿وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ﴾ فأوْقَدُوا نارًا عظيمة جدًّا، ثم رموا إبراهيم في هذه النار.

ويقال إنهم لِعظَم النار لم يتمكَّنوا من القرب منها، وأنهم رموا إبراهيم فيها بالمنجنيق من بُعد، فلما رموه قال: ((حسبُنا الله ونعم الوكيل)) فما الذي حدث؟

قال الله تعالى: ﴿قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ﴾، بردًا: ضدُّ حر، وسلامًا: ضدُّ هلاكًا ؛ لأن النار حارَّة ومحرقة ومهلكة، فأمر الله هذه النار أن تكون بردًا وسلامًا عليه، فكانت بردًا وسلامًا.

والمفسّرون بعضهم ينقل عن بني إسرائيل في هذه القصة، أن الله لما قال ﴿يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ﴾ صارت جميع نيران الدنيا بردًا ،

وهذا ليس بصحيح ؛ لأن الله وجَّه الخطاب إلى نار معينة ﴿يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا﴾

وعلماء النحو يقولون إنه إذا جاء التركيب على هذا الوجه، صار نكرةً مقصودة، أي: لا يشمل كل نار، بل هو للنار التي ألقي فيها إبراهيم فقط،

وهذا هو الصحيح، وبقية نيران الدنيا بقيت على ما هي عليه.

وقال العلماء أيضًا: ولما قال الله ﴿كُونِي بَرْدًا﴾ قُرنَ ذلك بقوله: ﴿وَسَلامًا﴾ ؛ لأنه لو اكتفى بقوله: ﴿ بَرْدًا﴾ لكانت بردًا حتى تهلكه ؛ لأن كل شيء يمتثل لأمر الله عز وجل،

انظر إلى قوله تعالى: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا﴾ فماذا قالتا: ﴿قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ﴾ [فصلت:11]،

﴿قَالَتَا أَتَيْنَا﴾ منقادين لأمر الله عز وجل.

أما الخليل الثاني الذي قال: ﴿حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾ فهو النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، حين رجعوا من أُحُد، قيل لهم: إن الناس قد جمعوا لكم، يريدون أن يأتوا إلى المدينة ويقضوا عليكم فقالوا: ﴿حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾.

قال الله تعالى: (﴿فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ﴾) [آل عمران:173،174].

فينبغي لكل إنسان رأى من الناس جمعًا له، أو عدوانًا عليه، أن يقول: (حسبنا الله ونعم الوكيل) ،

فإذا قال هكذا كفَاه الله شرَّهم، كما كفى إبراهيم ومحمدًا عليهما الصلاة والسلام،

فاجعل هذه الكلمة دائمًا على بالك، إذا رأيت من الناس عدوانًا عليك فقل: (حسبُنا الله ونعم الوكيل) يكفك الله عز وجل شرَّهم وهمَّهم.

والله الموفق.

 

* * *

79- السادس عن عمر رضي الله عنه قال: سمعت رسول اله صلى الله عليه وسلم يقول: (لو أنكم تتوكلون على الله حقَّ توكُّله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدوا خِماصًا وتروحُ بطانًا) رواه الترمذي، وقال: “حديث حسن”.

معناهُ: تذهب أول النهار خِماصًا: أي: ضَامِرَةَ البُطون من الجوع وترجع آخر النهار بِطانًا: أي: مُمتَلِئَة البُطونِ.

 

الشرح :
يقول النبي عليه الصلاة والسلام حاثًا أمته على التوكُّل : (لو أنكم تتوكلون على الله حق توَكُّله) أي: توكُّلًا حقيقيًّا، تعتمدون على الله – عز وجل – اعتمادًا تامًّا في طلب رزقكم وفي غيره (لَرَزَقَكُم كما يرزُقُ الطَّيرَ)

الطير رزقُها على الله عز وجل ؛ لأنها طيور ليس لها مالك، فتطير في الجو، وتغدوا إلى أوكارها، وتستجلب رزق الله عز وجل.

(تَغْدوا خِمَاصًا) تغدوا: أي تذهب أول النهار ؛ لأن الغدوة هي أول النهار. وخماصًا يعني: جائعة كما قال الله تعالى: (﴿فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾) [المائدة: 3]، مخمصة: يعني مجاعة. ((تغدوا خماصًا)) يعني جائعة: ليس في بطونها شيء، لكنها متوكِّلة على ربها عز وجل.

(وتروحُ) أي ترجع في آخر النهار ؛ لأن الرواح هو آخر النهار. ((بِطَانًا)) أي ممتلئة البطون، من رزق الله عز وجل.

ففي هذا دليل على مسائل:

أولًا: أنه ينبغي للإنسان أن يعتمد على الله- تعالى – حق الاعتماد.

ثانيًا: أنه ما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها، حتى الطير في جو السماء، لا يمسكه في جو السماء إلا الله، ولا يرزقه إلا الله عز وجل.

كل دابة في الأرض، من أصغر ما يكون كالذَّر، أو أكبر ما يكون، كالفيلة وأشباهها، فإن على الله رزقها، كما قال الله: (﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا﴾ [هود:6]،

ولقد ضلَّ ضلالًا مبينًا مَن أساء الظن بربه، فقال لا تكثروا الأولاد، تُضَيّقُ عليكم الأرزاق ،

كذبوا وربِّ العرش، فإذا أكثروا من الأولاد أكثر الله من رزقهم ؛ لأنه ما من دابة على الأرض إلا على الله رزقها، فرزق أولادك وأطفالك على الله عز وجل،

هو الذي يفتح لك أبواب الرزق من أجل أن تنفق عليهم،

لكن كثير من الناس عندهم سوء ظن بالله، ويعتمدون على الأمور المادية المنظورة، ولا ينظرون إلى المدى البعيد، وإلى قدرة الله عز وجل، وأنه هو الذي يرزق ولو كثُر الأولاد.

أكثِر من الأولاد تكثر لك الأرزاق، هذا هو الصحيح.

وفي هذا دليل- أيضًا- على أن الإنسان إذا توكل على الله حق التوكل فليفعل الأسباب.

ولقد ضلَّ من قال: لا أفعلُ السبب، وأنا متوكِّل،

فهذا غير صحيح،

المتوكِّلُ: هو الذي يفعل الأسباب متوكلًا على الله عز وجل،

ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: (كما يرزُقُ الطَّيرَ تغدو خِمَاصًا) تذهب لتطلُب الرِّزق، ليست الطيور تبقى في أوكارها، لكنها تغدوا وتطلب الرزق.

فأنت إذا توكلتَ على الله حق التوكل، فلا بد أن تفعل الأسباب التي شرعها الله لك من طلب الرزق من وجهٍ حلال بالزِّراعة، أو التجارة، بأي شيء من أسباب الرزق، اطلُبِ الرِّزق معتمدًا على الله، ييسِّر الله لك الرزق.

ومن فوائد هذا الحديث: أن الطيور وغيرها من مخلوقات الله تعرفُ الله، كما قال الله تعالى: (﴿تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ﴾) [الإسراء:44]، يعني: ما مِن شئ إلا يسبِّح بحمد الله (﴿وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ﴾) (﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوُابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ﴾) [الحج:18].

فالطيور تعرف خالقها عز وجل، وتطير تطلب الرزق بما جبلها الله عليه من الفطرة التي تهتدي بها إلى مصالحها، وتغدو إلى أوكارها في آخر النهار بطونها ملأى، وهكذا دَواليكَ في كل يوم، والله عز وجل يرزقها ويُيَسِّر لها الرزق.

وانظر إلى حكمة الله، كيف تغدو هذه الطيور إلى محلات بعيدة، وتهتدي بالرجوع إلى أماكنها، لا تخطئها ؛ لأن الله- عزَّ وجلَّ – أعطى كل شيء خلقه ثم هدَى.

والله الموفق.

 

* * *

80- السابع: عن أبي عِمَارَةَ البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا فُلان، إذا أويت إلى فراشك فقل: اللهم أسلمت نفسي إليك، ووجهت وجهي إليك، وفوَّضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك، رغبةً ورهبةً إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت، وبنبيك الذي أرسلت، فإنك إن متَّ من ليلتك مِتَّ على الفطرة، وإن أصبحت أصبتَ خيرًا) متفق عليه.

وفي رواية في الصحيحين، عن البراء قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم((إذا أتيت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة، ثم اضطجع على شقك الأيمن وقل: وذَكَرَ نحوه، ثم قال: واجعَلْهُنَّ آخر ما تقول)).

 

الشرح :

ثم ذكر المؤلف- في باب اليقين والتوكل – حديث البراء ابن عازب رضي الله عنهما، حيث أوصاه النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول عند نومه، إذا أوى إلى فراشه، أن يقول هذا الذِّكر، الذي يتضمَّن تفويض الإنسان أمره إلى ربه، وأنه مُعتمد على الله في ظاهره وباطنه، مفوِّض أمره إليه.

وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم أمَره أن يضجع إلى الجنب الأيمن ؛ لأن ذلك هو الأفضل،

وقد ذكر الأطباء أن النوم على الجنب الأيمن أفضل للبدن، وأصح من النوم على الجنب الأيسر.

وذكر أيضًا بعض أرباب السلوك والاستقامة، أنه أقرب في استيقاظ الإنسان ؛ لأن بالنوم على الجنب الأيسر ينام القلب، ولا يستيقظ بسرعة، بخلاف النوم على الجنب الأيمن، فإنه يبقى القلب متعلِّقًا، ويكون أقل عمقًا في منامه فيستيقظ بسرعة.

وفي هذا الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يجعلهن آخر ما يقول، مع أن هناك ذكرًا بل أذكارًا عند النوم تقال غير هذه،

مثلًا: التَسبيح و التَّحميد، والتَّكبير، فإنه ينبغي للإنسان إذا نام على فراشه أن يقول: سبحان الله ثلاثًا وثلاثين، والحمد لله ثلاثًا وثلاثين، والله أكبر أربعًا وثلاثين، هذا من الذكر،

لكن حديث البراء- رضي الله عنه- يدل على أن ما أوصاه الرسول صلى الله عليه وسلم به أن يجعلهن آخر ما يقول.

وقد أعاد البراء بن عازب- رضي الله عنه- هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ ليتقنه، فقال: ((آمنْتُ بكِتابِكَ الذي أنْزَلتَ ورَسولِك الذي أرْسلْت)) فردَّ عليه النبي عليه الصلاة والسلام، وقال قل: ((ونَبِيَّك الذي أرسَلْتَ)) ولا تقل: ((ورسولك الذي أرسَلت)).

قال أهل العلم: وذلك لأن الرسول يكون من البشر ويكون من الملائكة، كما قال الله عن جبريل: (﴿إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ(19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ)﴾ [التكوير:20،19]،

وأما النبي صلى الله عليه وسلم فلا يكون إلا من البشر.

فإذا قال: ((ورَسولِك الذي أرْسَلتَ)) فإن اللفظ صالح لأن يكون المراد به جبريل عليه الصلاة والسلام،

لكن إذا قال: (ونبيك الذي أرسلت) اختصَّ بمحمد صلى الله عليه وسلم، هذا من وجه، ومن وجه آخر: أنه إذا قال: (ورسولك الذي أرسلت) فإن دلالة هذا اللفظ على النُّبوَّة من باب دلالة الالتزام،

وأما إذا قال: (نبيك) فإنه يدل على النبوة دلالة مطابقة،

ومعلوم أن دلالة المطابقة أقوى من دلالة الالتزام.

الشاهد من هذا الحديث قوله: (وفوّضتُ أمْري إليكَ) وقوله: ( لا ملجَأ ولا منجا منك إلا إليك) فإن التوكل: تفويض الإنسان أمره إلى ربه، وأنه لا يلجأ ولا يطلب منجا من الله إلا إلى الله عز وجل، لأنه إذا أراد الله بقوم سُوءًا فلا مَردَّ له، فإذا أراد الله بالإنسان شيئًا فلا مرد له إلا الله عز وجل، يعني: إلا أن تلجأ إلى ربك- سبحانه وتعالى – بالرجوع إليه.

فينبغي للإنسان إذا أراد النوم أن ينام على جنبه الأيمن، وأن يقول هذا الذكر، وأن يجعله آخر ما يقول.

والله الموفق.

 

* * *

81- الثامن: عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه عبد الله بن عثمان بن عامر بن عمر بن كعب بن سعد بن تيم بن مُرَّة بن كعب بن لُؤي بن غالب القرشي التيمي رضي الله عنه- وهو وأبوه وأمه صحابة، رضي الله عنهم – قال: نظرت إلى أقدام المشركين ونحن في الغار وهم على رؤوسنا فقلت: يا رسول الله لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا. فقال: (ماظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما) متفق عليه.

 

الشرح :

قوله: (ما ظنُّكَ يا أبا بكرٍ باثنَينِ الله ثالِثُهُما) أي: ما ظنُّك، هل أحد يقدر عليهما أو ينالهما بسوء؟

وهذه القصة كانت حينما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما جهَرَ بالدعوة، ودعا الناس، وتبعوه، وخاف المشركون، وقاموا ضد دعوته، وضايقوه، وآذوه بالقول وبالفعل، فأذن الله له بالهجرة من مكة إلى المدينة ولم يصحبْه إلا أبو بكر رضي الله عنه، والدليل، والخادم، فهاجر بأمر الله، وصحِبَهُ أبو بكر رضي الله عنه.

ولما سمع المشركون بخروجه من مكة، جعلوا لمن جاء به مئتي بعير، ولمن جاء بأبي بكر مائة بعير، وصار الناس يطلبون الرجلين في الجبال، وفي الأودية وفي المغارات، وفي كل مكان، حتى وقفوا على الغار الذي فيه النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر، وهو غار ثور الذي اختفيا فيه ثلاث ليال، حتى يبرد عنهما الطلب، فقال أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله لو نظر أحدهم إلى قدميه لأبصَرَنا، لأننا في الغار تحته، فقال: (ما ظنُّكَ باثْنَينِ اللهُ ثالثُهُما) ، وفي كتاب الله أنه قال: ﴿لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا﴾[التوبة40]، فيكون قال الأمرين كلاهما، أي: قال: (ما ظنُّكَ باثْنَيْنِ اللهُ ثالثُهُما) وقال ﴿لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا﴾. فقوله: (ما ظنك باثنين الله ثالثهما) يعني: هل أحد يقدر عليهما بأذيَّة أو غير ذلك؟

والجواب: لا أحد يقدر ؛ لأنه لا مانع لما أعطى الله ولا معطي لما منع، ولا مذل لمن أعزَّ ولا معز لمن أذل: ﴿(قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)﴾ [آل عمران:26].

وفي هذه القصة: دليل على كمال توكُّل النبي صلى الله عليه وسلم على ربه، وأنه معتمد عليه، ومفوض إليه أمره، وهذا هو الشاهد من وضع هذا الحديث في باب اليقين والتوكل.

وفيه دليل على أن قصَّة نسج العنكبوت غير صحيحة،

فما يوجد في بعض التَّواريخ، أن العنكبوت نَسَجَت على باب الغار، وأنه نبت فيه شجرة، وأنه كان على غصنها حمامة، وأن المشركين لما جاءوا إلى الغار قالوا هذا ليس فيه أحد، فهذه الحمامة على غصن شجرة على بابه، وهذه العنكبوت قد عشَّشَت على بابه، كل هذا لا صحة له ؛ لأن الذي مَنَعَ المشركين من رؤية النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه أبي بكر ليست أمورًا حسية- تكون لها ولغيرهما- بل هي أمور معنوية، وآية من آيات الله عز وجل، حجب الله أبصار المشركين عن رؤية الرسول عليه الصلاة والسلام، وصاحبه أبي بكر رضي الله عنه،

أما لو كانت أمورًا حسية، مثل العنكبوت التي نسجت، والحمامة، والشجرة، فكلها أمور حسية، كلٌّ يختفي بها عن غيره، لكن الأمر آية من آيات الله عز وجل،

فالحاصل أن ما يُذكر في كتب التاريخ في هذا لا صحة له، بل الحق الذي لا شك فيه، أن الله – تعالى – أعمى أعيُنَ المشركين عن رؤية النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه- رضي الله عنه- في الغار.

والله الموفق.

 

* * *

82- التاسع: عن أم المؤمنين أم سلمة، واسمها هندُ بنت أبي أُميَّة حُذيفة المخزوميَّة، رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج من بيته قال: (بسم الله، توكَّلت على الله، اللهم إني أعوذ بك أن أَضِلَّ أو أُضَلَّ، أو أزِلَّ أو أُزَلَّ، أو أظلِم أو أُظْلم، أو أَجْهَل أو يُجهَلَ عليَّ) حديث صحيح رواه أبو داود، والترمذي وغيرهما بأسانيد صحيحة.

قال الترمذي: حديث حسن صحيح ، وهذا لفظ أبي داود.

83- العاشر: عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من قال- يعني إذا خرج من بيته- بسم الله توكَّلت على الله، ولا حولَ ولا قوَّةَ إلا بالله، يُقال له: هُديتَ وكُفيتَ ووُقيتَ، وتَنَحَّى عنه الشيطان) رواه أبو داود والترمذي، والنسائي وغيرهم.

وقال الترمذي: حديث حسن،

زاد أبو داود: ( فيقول: – يعني الشيطان – لشيطان آخر: كيف لك برجل قد هُدِيَ وكُفِيَ ووُقِيَ؟).

 

الشرح :

الشاهد من هذا الحديث قوله: (بسم الله توكَّلت على الله) فإن في هذا دليلًا على أن الإنسان ينبغي له إذا خرج من بيته، أن يقول هذا الذِّكر، الذي منه التَّوكل على الله والاعتصام به ؛ لأن الإنسان إذا خرج من بيته فهو عرضة لأن يصيبه شيء، أو يعتدي عليه حيوان، من عَقرب أو حيَّة أو ما أشبه ذلك، فيقول: (بِسمِ اللهِ توكَّلتُ على الله) ،

وَسَبَقَ لنا أن التوكل على الله، هو الاعتماد عليه مع الثقة به وحسن الظن.

وقوله: (اللَّهمَّ إنِّي أعوذُ بكَ أن أضِل) أي: أضِل في نفسي (أو أُضَل) أي: يضلني أحد. (أو أزِلَّ) من الزلل: وهو الخطأ. (أو أُزَل) أي: أحدٌ يتوصل لفعل الخطأ يصدر مني. (أو أَظْلِم) أو أظلِمَ غيري. (أو أُظلَم) يظلمني غيري. (أو أجهَلَ) أَسْفَه. (أو يُجهَلَ عليَّ) يَسْفَه عليَّ أحد، ويعتدي علي أحد.

فهذا الذكر ينبغي أن يقوله الإنسان إذا خرج من بيته، لما فيه من اللجوء إلى الله سبحانه وتعالى والاعتصام به.

والله والموفق.

* * *

 

 

 

اترك تعليقاً