شرح أحاديث رياض الصالحين .
* باب الاستقامة *
شرح العلامة الشيخ / محمد بن صالح بن عثيمين .
تصحيح لُغَوي و تنسيق مقالٍ أ/ إبراهيم باشا .
قال الله تعالى: (﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ﴾) [هود:112]،
وقال تعالى: (﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ ألا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ(30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ﴾) [فصلت:32،30]،
وقال تعالى: (﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (13) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾) [الأحقاف:13، 14] .
الشرح :
الاستقامة: هي أن يَثْبت الإنسان على شريعة الله_ سبحانه وتعالى_ كما أمر الله، ويتقدَّمها الإخلاص لله عز وجل.
ثم ذَكَرَ المؤلف عدة آيات في هذا، فذكر قول الله تعالى: (﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ﴾) الخطاب هنا للنبي صلى الله عليه وسلم ،
والخطاب الموجَّه للرسول صلى الله عليه وسلم يكون له ولأمته، إلا إذا قام دليل على أنه خاصٌّ به ،فإنه يختص به،
وأما إذا لم يقم الدليل على أنه خاص به، فإنه له وللأمة.
فمما دلَّ الدليل على أنه خاص به قوله تعالى: (﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَك (1) وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ﴾) [الشرح:1ـ3]،
فإن هذا خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم. ومثلَ قوله: ﴿(وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ)﴾ [الحجر:87]،
هذا أيضًا خاص بالرسول صلى الله عليه وسلم.
وأما إذا لم يقل الدليل على أن الخطاب للخصوصية، فهو له ولأمته،
وعلى هذه القاعدة يكون قوله: (﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ﴾) عامًّا له ولأمَّته،
كل واحد يجب عليه أن يستقيم كما أُمِر، فلا يبدِّل في دين الله، ولا يزيد فيه ولا ينقص،
ولهذا قال في آية أخرى: (﴿وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ﴾)[الشورى:15].
الآية الثانية قوله تعالى: ﴿(إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا…)﴾ [فصلت:30ـ33] .
﴿رَبُّنَا اللَّهُ﴾ أي: خالقُنا ومالكُنا ومدِّبر أمورنا، فنحن نخلص له،
﴿ثُمَّ اسْتَقَامُوا﴾ على ذلك؛ أي: على قولهم ربُّنا الله، فقاموا بشريعة الله. هؤلاء الذين اتصفوا بهذين الوصفين: ﴿قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا﴾ ﴿تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ﴾ مَلَكًا بعد مَلَك ،
﴿أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا﴾ يعني : أن الملائكة تتنزل عليهم بأمر الله في كل موطن مخوف ولاسيما عند الموت ؛ يقولون لهم: ﴿أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا﴾ لا تخافوا: فيما تستقبلون من أُمُوركم، ولا تحزنوا على ما مضى من أُموركم ،
﴿وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ﴾ والبشرى هي الإخبار بما يسُرُّ،
ولا شك أن الإنسان يَسُرُّهُ أن يكون من أهل الجنة ، أسأل الله أن يجعلني وإياكم منهم ، ﴿وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ﴾ لأنَّ كلَّ من قال ربِّي الله، واستقام على دين الله، فإنه من أهل الجنة،
ويقولن لهم أيضًا: ﴿نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ﴾ فالملائكة أولياء للذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا في الحياة الدنيا، تسددهم وتساعدهم وتعينهم، وكذلك في الآخرة تتلقاهم الملائكة يوم البعث والحساب ﴿(هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ﴾) فيبشروهم بالخير في مقام الخوف والشدة.
قال الله عز وجل ﴿وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ﴾
«لَكُمْ فِيْهَا» أي: في الآخرة ما تشتهي أنفسكم، وذلك في نعيم الجنة؛ لأن الجنة فيه ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين.
﴿وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ﴾ أي: تطلبون، بل لهم فوق ذلك: ﴿لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ﴾ [ق:35]، لهم زيادة على مايدعونه ويطلبونه ويتمنونه.
﴿نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ﴾ يعني: أن الجنة نُزُلٌ لهم وضيافة من غفور رحيم.
﴿غَفُور﴾ غفر لهم سيِّئاتهم ﴿ رَحِيمٍ﴾ بهم، رفع لهم درجاتهم،
هذا جزاء الذين يقولون ربنا الله ثم يستقيمون.
وفي هذا دليل على أهمية الاستقامة على دين الله بأن يكون الإنسان ثابتًا لا يزيد، ولا ينقص، ولا يبدِّل، ولا يغير،
فأمَّا من غلا في دين الله، أو جفا عنه، أو بدل فإنه لم يكن مستقيمًا على شريعة الله عزَّ وجلَّ،
والاستقامة لا بُدَّ لها من الاعتدال في كل شيء، حتى يكون الإنسان مستقيمًا على شريعة الله عزَّ وجلَّ.
* * *
85_ وعن أبي عمرو، وقيل: أبي عمرة سفيان بن عبد الله رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله قُل لي في الإسلام قولًا لا أسأل عنه أحدًا غيرك؟ قال: ((قل: آمنتُ بالله، ثم استقم)) رواه مسلم.
الشرح :
قوله: ((قُلْ لي في الإسلام قَوْلًا لا أسأَلُ عَنهُ أحدًا غيرك)) أي: قل لي قولًا لا أسأل عنه أحدًا غيرك، فيكون فصلًا وحاسمًا، ولا يحتاج إلى سؤال أحد،
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((قُلْ: آمنتُ باللهِ ثمَّ اسْتقِم)).
فقوله عليه الصلاة والسلام: ((قُلْ: آمنْتُ)) ليس المراد بذلك مجرد القول باللسان، فإن من الناس من يقول: آمنت بالله واليوم الآخر، وما هم بمؤمنين.
ولكن المراد بذلك قول القلب واللسان أيضًا. أي: أن يقول الإنسان بلسانه، بعد أن يُقِرَّ ذلك في قلبه، ويعتقده اعتقادًا جازمًا لا شك فيه؛ لأنه لا يكفي الإيمان بالقلب، ولا الإيمان باللسان، لا بد من الإيمان بالقلب واللسان،
ولهذا كان النبي عليه الصلاة والسلام _ وهو يدعو الناس إلى الإسلام _ يقول: ((يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا)) رواه ابن خزيمة ، والبيهقي ، و الحاكم في المستدرك و قال: صحيح الإسناد و لم يخرجاه ، و قال الذهبي: صحيح .
فقال: ((قولوا)) أي: بألسنتكم ، كما أنه لا بد من القول بالقلب.
وقوله: ((آمنْتُ بِالله)) يشمل الإيمان بوجود الله عزَّ وجلَّ، وبِرُبُوبيته، وبألوهيته، وبأسمائه وبصفاته، وبأحكامه، وبأخباره، وكُلِّ ما يأتي من قِبَلِه_ عز وجل _ تؤمن به،
فإذا آمنت بذلك فاستقم على دين الله، ولا تَحِدْ عنه لا يمينًا ولا شمالًا، لا تقصر ولا تزد .
فاستقم على الدين، واستقم على شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وذلك بالإخلاص لله عزَّ وجلَّ، والمتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، واستقم على الصلاة، وعلى الزكاة، والصيام والحج، وعلى جميع شريعة الله.
وقوله: ((قُلْ آمنْتُ بالله ثُمَّ)) دليل على أن الاستقامة لا تكون إلا بعد الإيمان،
وأن من شرط الأعمال الصالحة، أي: من شرط صحتها وقبولها أن تكون مبنيةً على الإيمان،
فلو أن الإنسان عمل بظاهره على ما ينبغي، ولكنَّ باطنه خراب، وفي شك، أو في اضطراب، أو في إنكار وتكذيب، فإن ذلك لا ينفعه،
ولهذا اتفق العلماء_ رحمهم الله_ على أنَّ من شروط صحَّة العبادة وقبولها، أن يكون الإنسان مؤمنًا بالله، أي: معتَرِفًا به، وبجميع ما جاء من قِبله تبارك وتعالى.
ويستفاد من هذا الحديث:
* أنه ينبغي للإنسان_ إذا قام بعمل _ أن يَشْعُر بأنه قام به لله، وأنه يقوم به بالله، وأنه يقوم به في الله؛ لأنه لا يستقيم على دين الله إلا بعد الإيمان بالله عز وجل ، فيشعرُ بأنه يقوم به لله، أي مُخلصًا، وبالله، أي مستعينًا، وفي الله، أي متبعًا لشرعه،
وهذه مُسْتَفَادة من قوله تبارك وتعالى: (﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ(5) اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾) فالأول: قيام لله، والثاني: قيام به، والثالث: قيام فيه، أي: في شرعه،
ولهذا نقول: إن المراد بالصراط المستقيم – في الآية الكريمة – هو شرع الله عزَّ وجلَّ الموصلُ إليه.
والله الموفق.
* * *
86_ وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قاربوا وسدِّدوا، واعلموا أنه لنْ يَنْجُوَ أحدٌ منكم بِعَمَلِهِ) قالوا: و لا أنت يا رسول الله؟ قال: (و لا أنا إلا أن يتغمَّدني الله برحمة منه و فضل) رواه مسلم.
و((المقاربة)) القصد الذي لا غُلُوَّ فيه ولا تقصير.
و((السداد)): الاستقامة والإصابة،
و( يتغمدني)) يُلبِسَني ويستُرني.
قال العلماء: معنى الاستقامة: لُزُومُ طاعة الله تعالى،
قالوا: وهي من جوامع الكلم، وَهِيَ نظام الأمور،
وبالله التوفيق.
الشرح :
هذا الحديث يدل على أنَّ الاستقامة على حسب الاستطاعة، وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم((قارِبوا وسَدِّدوا)) أي: قاربوا ما أُمِرْتُم به، واحرصوا على أن تقرُبوا منه بقدر المسْتَطَاع.
وقوله ((سدِّدُوا)) أي سدِّدُوا على الإصابة؛ أي: احْرصوا على أن تكون أعمالكم مصيبةً للحق بقدر المستطاع ؛ وذلك لأن الإنسان مهما بلغ من التقوى، فإنه لابد أن يُخطىءَ، كما جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (كلُّ بني آدمَ خطَّاءٌ، وخيرُ الخطائين التوابون) رواه الترمذي، وابن ماجه، و أحمد، و حسنه الألباني في صحيح الجامع.
وقال عليه والصلاة السلام: (لو لم تُذنِبوا لذهب الله بكم، وَلَجَاءَ بقوم يُذنِبون فيستغفرون اللهَ فيغفرُ لهم)
رواه مسلم .
فالإنسان مأمور أن يقارب ويُسدد بقدر ما يستطيع.
ثم قال عليه الصلاة والسلام: (واعلموا أنَّه لن يَنْجُوَ أحدٌ منكم بِعَمَلِه)أي: لن ينجو من النار بعمله ؛ وذلك لأن العمل لا يبلغ ما يجب لله_ عز وجل _ من الشُّكر، وما يجب له على عباده من الحقوق، ولكن يتغمد الله_ سبحانه وتعالى _ العبد برحمته فيغفر له.
فلما قال: (لَنْ يَنْجُوَ أحدٌ منكم بِعَمَلِه) قالوا له: ولا أنت؟! قال: (ولا أنا)
حتى النبي عليه الصلاة والسلام لن ينجو بعمله (إلا أن يتغمدني الله برحمة منه) ، فدلَّ ذلك على أن الإنسان مهما بلغ من المرتبة والولاية، فإنه لن ينجوَ بعمله،
حتى النبي عليه الصلاة والسلام، لولا أن الله مَنَّ عليه بأن غفر له ذنبه ما تقدم منه وما تأخر، ما أنْجاه عمله.
فإن قال قائل: هناك نُصُوص من الكتاب والسنة تدل على أن العمل الصالح ينجي من النار ويُدخل الجنة، مثل قوله تعالى: (﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾) [النحل:97]،
فكيف يُجمَع بين هذا وبين الحديث السابق؟
والجواب عن ذلك:
أن يقال: يُجمع بينهما بأن المنفيَّ دخول الإنسان الجنة بالعمل في المقابلة، أما المثْبتُ: فهو أن العمل سبب وليس عوضًا ، فالعمل _ لا شكَّ_ أنه سَبَب لدخول الجنة والنجاة من النار، لكنه ليس هو العِوض، وليس وحده الذي يدخل به الإنسان الجنة، ولكن فضل الله ورحمته هما السَّبب في دخول الجنة وهما اللذان يوصلان الإنسان إلى الجنة وينجيانه من النار.
وفي هذا الحديث من الفوائد:
* أن الإنسان لا يعجب بعمله،
مهما عملت من الأعمال الصالحة لا تُعْجَبْ بعملك، فعملُكَ قليل بالنسبة لحق الله عليك.
* وفيه أيضًا من الفوائد: أنه ينبغي على الإنسان أن يُكثر من ذكر الله دائمًا،
ومن السؤال بأن يتغمَّده الله برحمته ،فأكثر من ذلك ،وقل دائمًا : (اللَّهم تغمدني برحمة منك وفضل) ؛ لأن عملك لن يوصلك إلى مرضاة الله، إلا برحمة الله عز وجل.
* وفيه دليل على حرص الصحابة_ رضي الله عنهم _ على العلم؛
ولهذا لما قال: (لَنْ يَنْجُوَ أحدٌ منكم بِعَمَلِه) استفصلوا، هل هذا العموم شامل له أم لا؟ فبَيَّنَ لهم صلى الله عليه وسلم أنَّه شامل له.
و من تدبر أحوال الصحابة – رضي الله عنهم – مع النبي صلى الله عليه و سلم وجد أنَّهم أحرص الناس على العلم، وأنهم لا يتركون شيئًا يحتاجون إليه في أُمور دينهم و دنياهم إلا ابتدروه و سألوا عنه.
و الله الموفق.
* * *
Related