الإيمان بذرة معنوية .
تصحيح لغوي ، وتنسيق مقال أ/ إبراهيم باشا .
يقول سعيد النورسي :
قال تعالى:
(﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾) (البقرة:2) .
إن كنتَ تريد أن تعرف مدى ما في الإيمان من سعادة ونعمة ، ومدى ما فيه من لذة وراحة ، فاستمع إلى هذه الحكاية القصيرة :
خرج رجلان في سياحة ذات يوم ،
من أجل الاستجمام والتجارة .
فمضى أحدُهما _ وكان أنانيًّا شقيًّا _ إلى جهة ،
ومضى الآخر _ وهو رباني سعيد _ إلى جهة ثانية.
فالأناني المغرور الذي كان متشائمًا لقي بلدًا في غاية السوء والشؤم في نظره ،
جزاءً وفاقًا على تشاؤمه،
حتى إنه كان يرى _ أينما اتَّجه _ عجَزة مساكين يصرخون ويولولون من ضربات أيدي رجال طغاة قساة ومن أعمالهم المدمِّرة .
فرأى هذه الحالة المؤلمة الحزينة في كل ما يزوره من أماكن ،
حتى اتخذت المملكة كلُّها في نظره شكلَ دار مأتم عام ، فلم يجد لنفسه علاجًا لحاله المؤلم المظلم غير السُكر ، فرمى نفسه في نشوته ؛ لكيلا يشعرَ بحاله، إذ صار كلُّ واحد من أهل هذه المملكة يتراءى له عدوًا يتربَّص به ، وأجنبيًّا يتنكَّر له ،
فظل في عذاب وجداني مؤلم لِما يرى فيما حوله من جنائزَ مُرعبة ويتامى يبكون بكاءً يائسًا مريرًا .
السلامة والأمان إذن لا وجود لهما إلَّا في الإسلام والإيمان . فعلينا أن نردد دائمًا :
الحمد للّٰه على دين الإسلام وكمال الإيمان .
أمَّا الآخر ، الرجل الربَّاني العابد للّٰه ، والباحث عن الحق ، فقد كان ذا أخلاق حسنة بحيث
لقيَ في رحلته مملكة طيِّبة ، هي في نظره في منتهى الروعة والجمال .
فهذا الرجل الصالح يرى في المملكة التي دخلها احتفالات رائعة ومهرجانات بارعة قائمة على قَدم وساق ، وفي كل طرف سـرورًا ، وفي كل زاويـة حبـورًا ، وفي كل مكان محاريب ذِكر .
حتى لقد صار يرى كل فرد من أفراد هذه المملكة صديقًا صدوقًا ، وقريبًا حبيبًا له .
ثم يرى أن المملكة كلَّها تعلن _ في حفل التسريح العام _ هتافات الفرح بصيحة مصحوبة
بكلمات الشكر والثناء .
فبينما كان ذلك الرجلُ الأول المتشائم منشغلًا بألَمِه وآلام الناس كلِّهم ، كان الثاني السعيدُ المتفائل مسرورًا مع سرور الناس كلِّهم فَرِحًا مع فرحهم .
فضلًا عن أنه غَنِم لنفسه تجارة حسنة مباركة فشكر ربَّه وحمده .
ولدى عودته إلى أهله ، يَلقى ذلك الرجلَ فيسأل عنه وعن أخباره ،
فيُعْلِم كُلُ شيء عن حاله ، فيقول له : “يا هذا لقد جُنِنتَ ! فإنَّ ما في باطنك من الشؤم انعكس على ظاهرك ، بحيث أصبحتَ تتوهم أن كل ابتسامة صراخ ودموع ، وأن كل تسريح وإجازة نَهب وسلب .
عُد إلى رُشدك ، وطهِّر قلبَك ، لعل هذا الغشاء النكد ينـزاح عن عينيك .
وعسى أن تبصر الحقيقة على وجهها الأبلج .
فإن صاحب هذه المملكة ومالكَها وهو في منتهى درجات العدل والمرحمة والربوبية والاقتدار والتنظيم المبدع والرفق .
وإن مملكة بمثل هذه الدرجة من الرقي والسمو مما تريك من آثار بأمِّ عينيك ، لا يمكن أن تكون بمثل ما تريه أوهامُك من صور “ .
وبعد ذلك بدأ هذا الشقي يراجع نفسَه ويرجع إلى صوابه رويدًا رويدًا ، ويفكر بعقله ويقول مُتَنَدِّمًا : “نعم لقد أصابني جنون لكثرة تعاطي الخمر .
ليرضَ اللّٰه عنك ؛ فلقد أنقذتَني من جحيم الشقاء “ .
فيا نفسي ، اعلمي أن الرجل الأول هو “الكافر” أو “الفاسق الغافل” . فهذه الدنيا في نظره بمثابة مأتم عام ، وجميع الأحياء أيتام يبكون تألمًا من ضربات الزوال وصفعات الفراق .
أما الإنسان والحيوان فمخلوقات سائبة بلا راع ولا مالك ، تتمزق بمخالب الأجَل وتعتصر بمعصرته.
وأما الموجودات الضِّخام _ كالجبال والبحار _ فهي في حُكم الجنائز الهامدة والنعوش الرهيبة .
وأمثال هذه الأوهام المدهشة المؤلمة الناشئة من كفر الإنسان وضلالته تذيق صاحبَها
عذابًا معنويًا مريرًا .
أما الرجل الثاني ، فهو ” المؤمن ” الذي يعرف خالقَه حق المعرفة ، ويؤمن به .
فالدنيا في نظره دارُ ذكر رحماني ، وساحةُ تعليم وتدريب البشر والحيوان ، وميدانُ ابتلاء واختبار للإنس والجان .
أما الوفيات كافة _ من حيوان وإنسان _ فهي إعفاء من الوظائف ، وإنهاء من الخدمات ، فالذين أنهوا وظائف حياتهم ، يودِّعون هذه الدار الفانية وهم مسرورون معنويًّا ، حيث إنَّهم يُنقَلون إلى عالم آخر غير ذي قلق ، خالٍ من أوضار المادة وأوصاب الزمان والمكان وصروف الدهر وطوارق الحدثان ، لينفسح المجالُ واسعًا لموظفين جُدد
يأتون للسعي في مهامهم .
أما المواليد كافة _ من حيوان وإنسان _ فهي سَوقة تجنيد عسكرية ، وتسلُّمُ سلاح ،
وتسنُّم وظائف وواجبات ، فكل كائن إنما هو موظف وجندي مسرور ، ومأمور مستقيم راضٍ قانع .
وأما الأصوات المنبعثة والأصداء المرتدَّة من أرجاء الدنيا فهي إما ذكر وتسبيح لتسلُّم الوظائف والشروع فيها ، أو شكر وتهليل إيذانًا بالانتهاء منها ، أو أنغام صادرة من شوق العمل وفرحته .
فالموجودات كلها _ في نظر هذا المؤمن _ خدَّام مؤنسون ، وموظفون أخلَّاء ، وكتب حلوة لسيده الكريم ومالكه الرحيم .
وهكذا يتجلى من إيمانه كثير جدًّا من أمثال هذه الحقائق التي هي في غاية اللطف والسمو واللذة والذوق .
فالإيمان إذن يضم حقًّا بذرة معنوية منشقة من “طوبى الجنة” .
أما الكفر فإنه يخفي بذرة معنوية قد نفثته “زقومُ جهنم” .
فالسلامة والأمان إذن لا وجود لهما إلَّا في الإسلام والإيمان .
فعلينا أن نردِّد دائمًا : الحمد للّٰه على دين الإسلام وكمال الإيمان .
Related